البل عطايا الله
سعد الصويان
كلما تعمقنا في فهم العلاقة بين البدوي والبعير وكلما اقتربنا من فك معانيها
ودلالاتها الرمزية كلما اقتربنا من فهم السيكولوجية البدوية. علاقة ابن الصحراء
مع بعيره تفوق في كثافتها وقيمتها ومعناها علاقته مع المخلوقات الأخرى، وهي
علاقة معقدة التركيب نظرا لتعدد الوظائف وتنوع الأدوار التي يقوم بها كل منهما
تجاه الآخر. البدوي والبعير لا غنى لأحدهما عن الآخر ولا يستطيع أي منهما تحمل
العيش في الصحراء بدون الآخر. لقد ترافقا في رحلتهما الطويلة عبر عصور التاريخ
وكانا خير عون أحدهما للآخر على طبيعة الصحراء القاسية. ومما يعزز هذه العلاقة
بين الإثنين أن الإبل بطبيعتها حيوانات أليفة تألف مواطنها والمراعي التي
اعتادتها والموارد التي تشرب منها وتحن إليها وإلى القطيع الذي تربت معه، ومنها
اشتقوا مفهوم الإلف والتآلف. كما أنها حيوانات ودودة تتميز بسرعة التعلم
والتعود وسهولة الانقياد والتوجيه وهي مطيعة تنصاع لأوامر صاحبها وتوجيهاته.
لا
تقتصر مهمة البدوي فقط على رعي الإبل وتوفير ما تحتاج إليه من الماء. لا بد من
العناية بها إذا مرضت وجلب الفحل لها ومساعدتها أثناء الحمل والولادة. نتاج
الإبل أمر في غاية الأهمية بالنسبة للبدوي لأنه لو انقطع الإنتاج لانقرض الذود.
ثم إن الحليب الذي تدره الناقة بعد الولادة يشكل غذاء رئيسيا عند البدوي الذي
قد يمضي الأيام الطويلة لا يَطْعَم شيئا غير حليب النوق. تتمحور نشاطات البدو
اليومية، كما تمليه طبيعة حياتهم الرعوية، حول استيلاد الإبل واستنسالها. ولا
أحد عنده من المعرفة ما يضاهي معرفة البدوي فيما يتعلق بولادة الإبل
ونتاجها.هذا تخصص البدوي الذي يمضي فيه كل حياته، بل إنه يلعب دورا أساسيا في
رعاية وتوجيه هذه العملية الإنتاجية، ومن الأمثلة على هذا التوجيه، أو التدخل،
استنسال الأنواع الجيدة التي تدر لبنا غزيرا أو التي تعطي لحما طيبا أو التي
توفر مركبا فارها وسريعا. ومن الأمثلة الأخرى نحر الذكور من النتاج لأنه لا
مصلحة من تربيتها فهي حينما تكبر لن تنتج. وحيث أن الذود يكفيه فحل واحد فلا
فائدة من تجميع الفحول التي تستهلك المرعى، وربما تتشاجر مع بعضها. لذلك ينحرون
الذكور من النتاج ليَطْعَموا لحمها وليوفروا حليب الأم الذي هم بأمس الحاجة
إليه لأنفسهم ولخيلهم وللحيران التي ماتت أمهاتها أو فقدت أو نهبت ولحيران
السلالات النجيبة التي يغدقون عليها الحليب من أمهاتها ومن غير أمهاتها.
طبيعة حياته الرعوية تملى على البدوي أن تنشأ بينه وبين البعير علاقة من نوع
خاص فيتخذه رمزا لكل ما هو نبيل وكل ما هو مأساوي في حياة الصحراء واتخذوا منه
رمزا للتوجد والتوجع. ملازمة البدوي للبعير جعلت منه كائنا دائم الحضور في
الذهن والشعور، ليس فقط كراحلة أو دابة أو مصدر غذاء وثروة، وإنما كعامل أساسي
في قدرة الإنسان على تحمل حياة الصحراء، وكمثال يحتذى في التحمل والصبر والتكيف
مع بيئة الصحراء القاسية. ولذا نشأت بين البدوي وبعيره ألفة ومودة ربما تفوق
المودة التي تربطه ببني جنسه، وغالبا ما نجد الشاعر في مستهل قصيدته يبث شكواه
لفاطره "يافاطري" بدلا من أن يبثها لأصدقائه من البشر.
ومما يزيد من ترسيخ صورة الإبل كمثال للتحمل والصبر قدرتها على حمل الأثقال
وقطع المفازات الطويلة والصبر على الطريق وتحمل حفى الأخفاف والمناسم وما تحدثه
ظلاف الأشده من قروح غائرة على الأجناب. احترام ابن الصحراء للبعير وإعجابه به
لا حدود لهما. وإذا أرادوا إطراء الرجل ومدحه سموه "هديب الشام" أو "بليهان"
كناية على أنه في تحمله وصبره يضاهي الجمال القوية. والرجال الذين يتحملون
ويصبرون على الشدائد يسمونهم "زمول المحامل" وهي الجمال المعدة لحمل الأثقال.
وشيخ القبيلة المثقل بإدارة شؤونها والذي يتحمل همومها يسمونه "جمل المحامل".
ويرتبط عندهم مفهوم الشجاعة والرجولة بالفحولة، ويشبهون المحاربين الشجعان
بفحول الإبل "الصايكه وقت الهداد" ويقولون بأنهم ينطلقون إلى القتال كما تنطلق
فحول الإبل "الزمول" التي يتعالى صوت هديرها "تقاصف هديره"، ولا يهدر الجمل إلا
إذا استثير.ويسمون الرجال الشجعان "مناعير" والاسم مستمد من النعرة وهو الصوت
الذي يحدثه الفحل من نعرته، أي خيشومه، حينما يستهاج ويستشيط. ويشبهون غيرتهم
على "أناثيهم" بغيرة فحول الإبل على إناثها. والمقصود بالفحولة الغيرة التي
تبعث على الشجاعة اللازمة لصد الفحول الآخرين عن إناث الذود. ومثلما يشبهون
أنفسهم بفحول الإبل يشبهون ضجيج النساء في المعركة بحنين الخلج، ومفردها خلوج،
وهي الناقة التي تكثر الحنين لفقد ولدها. يشبهون أنفسهم في الشجاعة بفحول الإبل
ويشبهون نساءهم بإناث الإبل. ويتجلى هذا التناظر النموذجي بين الإبل والبشر
أيضا في رقصة الدحة التي يرقصونها عادة بعد انتصاراتهم الحربية. يصدر الرجال
أثناء أدائهم لهذه الرقصة فحيحا وحركات شبيهة بأصوات فحول الإبل وحركاتها
ويأتون بفتاة ترقص بين الصفوف يسمونها حاشي ويرتجل شاعر الدحة أبياتا تدور حول
الحاشي وتشير لها كما لو أنها ناقة وليست امرأة.
ومما يزيد من إعجاب ابن الصحراء بالبعير وتعجبه منه أنه بقدر ما يمثل بالنسبة
له النموذج الأعلى في الصبر والقوة والقدرة على التحمل فإنه في الوقت نفسه يمثل
النموذج الأعلى في العطف والحنان. فالناقة حيوان رؤوم لا تطيق فراق حوارها. إذا
ما فقدت الناقة حوارها أو فارقت أليفاتها يصيبها "الخلاج" وتصدر أصواتا أشبه
بعبرات الإنسان تسمى حنينا، ومن هنا أصبحنا نقول عن شوق الإنسان إلى أحبته أو
وطنه حنيناً. وقصة خلوج ابن رومي من القصص المشهورة التي جرت مجرى الأمثال على
ألسنة الشعراء.
ولا
تدر الناقة إلا أذا قيد لها حوارها ورأته وشمته ولامست أخلافها مشفراه. ولذلك
فإن البدو لا يقولون عنها "درّت" ولا "أدرّت" بل يقولون عْطِفَت على حوارها،
ومنه اشتقوا المفهوم الإنساني للعطف، وهو أن يرق قلبك للمحتاج والضعيف وتجود له
بما عندك كما تجود الناقة بحليبها لحوارها. وهناك كلمات مثل "يروم"، و"يألف"
استعارها الإنسان من الإبل التي تجزع جزعا شديدا لفراق أليفاتها حينما ينهبها
الغزاة وتتشتت في أيديهم بعدما كانت أذوادا متآلفة. مثلما استعاروا الهيام أيضا
لشدة العشق والتي تعني في الأساس شدة عطش الإبل وشوقها لشرب الماء. ومن الصفات
التي نقلوها من البعير إلى الإنسان للتعبير عن الألم النفسي والعضوي قولهم
"مضهود" لمن ألم به ضيم أو حيف، وتعني في الأصل الحمل الثقيل على ظهر البعير
الذي يزيد عن طاقته، وقولهم "ملهود" لمن يخفي حزنا دفينا، والملهود أساسا هو
البعير الذي أصاب جنبه ورم من تحت الجلد من ضغط الحمل عليه إما لثقله أو لسوء
وضعيته، وإن لم يعرّي ظهره من الحمل تفتحت اللهدة وصارت دبرة.
وإذا تعرض النزل لغارة من الغزاة فإن المهاجمين لا ينهبون إلا الإبل القادرة
على الهرب ويتركون من لا تتحمل الركض السريع والمتواصل إما لمرض أو إصابة أو
عيب أو لصغر سنها. ولا شك أن أصحاب الإبل يصيبهم الجزع لنهب إبلهم لكن ما
يجزعهم أكثر ويقطع نياط قلوبهم هو سماعهم من كل جانب في الحي أصوات صغار الإبل
"الحيران"، "الحشو" التي لا ينقطع حنينها لفقد أمهاتها، والبدوي شديد التعاطف
مع الإبل ولا يتحمل سماع حنينها الذي يملأ قلبه حزنا. والجزع الذي يصيبهم لسماع
صوت الحيران هو الذي يشعل فيهم الحماس ويمنحهم الشجاعة والتصميم على استرداد
إبلهم المنهوبة، فيحمل كل منهم سلاحه ويرقصون رقصة الحرب ويستعرضون قوتهم
"يَعَرْضون" عند الحيران معلنين لها عزمهم على استرجاع أمهاتها "أبشر بامّك،
أبشر بامك". ما تحتمه حياة الصحراء من ترحال متواصل وغزوات لا تنقطع جعل الإبل
والبشر، كلاهما، عرضة للتشتت وفراق الأحبة "الولايف". إنها مأساة مشتركة بين
الإنسان والبعير عبر عنها الشعراء متخذين من جزع الناقة لفراق حوارها أو
أليفاتها رمزا لما يحسه الإنسان إذا فارق من يحب وغاب عنه. وقد أجاد أحد
الشعراء في تقمص سيكولوجية الإبل التي نهبها الغزاة من مراعيها فعرض علينا في
هذه الصورة مأساة هذه الإبل التي نهبها صاهود بن لامي "أبو سفّاح" ومعاناتها
وما تحسه لفقد حيرانها وأليفاتها:
يامل قلبٍ بنات البدو يشْعَنّه // شعية قِطيعٍ خذوها قوم صاهودِ
مقدم هل الهجن ابو سفّاح يتلنّه // واللي معه كلهم صبيان مقصودِ
إلى شَعَوا جِلّهن واقفوا عليهنّه // ما يقعد الا شِبِه ضالع ومفرود
تشاوروا بالنكوفه واوردوهنّه // عِدٍّ ذرت جِرّته هبايب النود
يوم اوردوهن على الما جا لهن حنّه // مْفرّقٍ ولفهن طارد ومطرود
|