نحو مسرح شعبي
سعد الصويان
ها
وقد من الله علينا بهذه الثروات الطائلة وأسبغ علينا نعمه التي لا تحصى، وبعد
هذا الانفتاح على العالم والثقافات الأخرى فإنني أظن أنه قريبا سيأتي اليوم
الذي نطمح فيه إلى استكمال مقومات الرقي والتحضر بإنشاء المعاهد الفنية
والصناعة السينمائية والمسرح الاستعراضي وصالات العرض المسرحي والسينمائي. ومن
المستحسن في هذه المرحلة، بل لعله من الضروري كخطوة أولى وحتى يتم إنشاء معهد
عال للفنون عندنا، أن يتم تدريب ومسرحة بعض الفرق الشعبية القائمة فعلا
والمؤدين الشعبيين الموجودين حاليا والذين اكتسبوا فنهم بالفطرة والممارسة لا
بالدراسة والتحصيل. ولكن لا بد أن ينفذ مثل هذا المشروع وفق منهج مدروس وخطة
واضحة المعالم والأهداف وتحت إشراف من يتوفر لديهم الحد الأدنى من الخبرة
والكفاءة.
الخطوة الأولى نحو تأسيس مسرح شعبي استعراضي هي إجراء مسح شامل وتوثيق كامل
لكافة أجناس الفنون الشعبية في بلادنا ودراستها وفق أحدث المناهج العلمية في
هذا المجال. وليس بوسعي في هذه العجالة المقتضبة أن أتعرض بالتفصيل للعناصر
التي يتحتم أن تشملها مثل هذه الدراسة. مثلا لا بد من مسح وتوثيق جميع
الإيقاعات والمقامات والنغمات السلمية والقوالب الموسيقية. وينبغي أن تشمل
الدراسة تصوص الأغاني والألات الموسيقية المصاحبة وغيرها من الأدوات بجميع
أنواعها. كذلك حركات المؤدين وخطوات الرقص وصفق الأكف والأزياء وطرق تصميمها،
ولا بأس من إضافة الألعاب الشعبية والحرف التقليدية وغيرها من مظاهر الحياة
الشعبية.
المسرح الشعبي ليس مجرد عروض غنائية راقصة. المسرح الشعبي صورة مصغرة ومكثفة
تعكس الحياة الشعبية بمختلف أنماطها ونشاطاتها المعيشية والحرفية بما يصاحب ذلك
عادة من مظاهر احتفالية يصاحبها الرقص والغناء. أي أن العروض الغنائية الراقصة
بما تشتمل عليه من حركات وإيقاعات وأزياء وإن كانت تمثل الجانب الأساسي في
المسرح الشعبي إلا أنها تبقى جزءا من كل متكامل يشتمل على أجزاء مقتطعة من حياة
الناس اليومية التي تتراوح فيها المواقف الهزلية والمشاهد الدرامية. الرقص
والغناء والأزياء الجميلة تتضافر مع هذه المشاهد التقليدية من الحياة الشعبية
لتعطي العرض المسرحي أبعادا إنسانية واجتماعية وبذلك يؤدي المسرح الشعبي وظيفته
الترفيهية والتثقيفية بعيدا عن الابتذال والتهريج وعن الطرب الساذج الرخيص.
ولا
يقتصر المسرح الشعبي على عرض صور من الماضي والحياة التقليدية بل يمكن الإفادة
منه كأداة فعالة لا تقل في تأثيرها عن وسائل الإعلام الأخرى لتوجيه الناس ورفع
مستوى الوعي بينهم عن طريق معالجة القضايا الاجتماعية وتحليلها باسلوب فني يجمع
بين الجد والهزل ويتمشى مع الحس الجماهيري بحيث يتقبله الناس ويتجاوبون معه
ويدركون أبعاده. ومن منا يجهل الدور الذي يمكن أن يلعبه المسرح في حياة الأمم
فيما لو أتيح له المجال ليقوم برسالته الفنية والوطنية على الوجه المطلوب.
نقل
الفنون الشعبية من أرض الساحة إلى خشبة المسرح أمر ليس بالهين اليسير لما
يتطلبه ذلك من تقنيات متقدمة ومهارات عالية وخيال واسع ومواهب أصيلة. وحينما
تكون المادة الخام من التنوع والثراء كما هي عليه الحال عندنا فإن المهمة تصبح
أكثر صعوبة وتعقيدا. الفنون الشعبية عندنا من الغزارة والتباين بحيث يصعب
الإلمام بها واستيعابها وفرزها واختيار الأنسب منها للعرض المسرحي. والاعتبارات
الفنية ليست هي المحك الوحيد الذي يحكم هذا الاختيار. فالاعتبارات الثقافية
والاجتماعية والأهداف القومية والحضارية لا بد أن توضع في الحسبان. نتوقع أن
يكون مسرحنا الشعبي ممثلا أصدق تمثيل لمختلف المناطق الجغرافية والفئات
الاجتماعية في بلادنا على أن يتم صهر ذلك كله في رؤية فنية متكاملة وبوتقة
حضارية واحدة تعكس وتعزز وحدتنا الوطنية والمصيرية. هذا من ناحية. ومن ناحية
أخرى نريد لهذا المسرح أن يكون منبرا يعبر عن طموحاتنا وتطلعاتنا ونبث من خلاله
روح المودة والألفة والتواصل بين أبناء شعبنا وننمي فيهم الوعى القومي ونغرس في
نفوسهم بذور المواطنة الحقة والاعتزاز بثقافتنا وتاريخنا.
ثم
إن الأداء المسرحي يختلف في طبيعته وسياقه عن الأداء على أرض الساحة. على أرض
الساحة هناك تلاحم وتواصل حميمي بين المؤدين والجمهور يصل في كثير من الأحيان
إلى حد المشاركة الفعلية في الأداء بحيث يصعب الفصل بين المؤدين والجمهور، بل
إن هذا الفصل يصبح أمرا غير وارد فأرض الساحة على اتساعها هي المسرح وجميع من
فيها يشاركون في الأداء بشكل أو بأخر، وكل منهم بطريقته الخاصة يشكل جزءا من
مكونات الجو العام ويضيف عنصرا من عناصر المناسبة الاحتفالية. أما خشبة المسرح
فتشكل وضعا جديدا وسياقا مختلفا لم يتعود عليه لا المؤدون ولا الجمهور وكلاهما
يحتاج إلى بعض الوقت ليتكيف معه ويرتاح له. الأداء المسرحي يفصم عرى التواصل
والتلاحم ويقيم حواجز مكانية ونفسية، بل واجتماعية بين المؤدين الذين يعتلون
خشبة المسرح والجمهور الذين يجلسون على الكراسي ساكتين ساكنين.
ومسرحة الفنون الشعبية تفرض على المؤدين قدرا من التنظيم والانضباط والتدريبات
التي قد يبرم بها الفنان الشعبي ويرى فيها حدا من رغبته في الانطلاق على سجيته
والتعبير عن فرديته بحرية وعفوية، خصوصا بالنسبة للفنانين الشعبيين الذين
اكتسبوا فنهم بالفطرة والممارسة لا بالدراسة والتحصيل. ناهيك عن التعامل بطريقة
فعالة ومؤثرة مع الأجهزة الصوتية والضوئية الحديثة والتي قد يجهلها كثير من
الفنانين الشعبيين. والعروض المسرحية محدودة مكانيا بخشبة المسرح ومحدودة
زمانيا بمدة العرض. هذه القيود المكانية والزمانية والتي هي دخيلة على الطبيعة
التلقائية للفن الشعبي ستنتج عنها تحولات بالغة الأهمية في بناء وتصميم العروض
الشعبية وكذلك على تجاوب المؤدين وطريقة أدائهم.
ومسألة استلهام الفنون الشعبية تحضر إلى الذهن العديد من الأراء المتضاربة حول
مشروعية ذلك وجدواه، خصوصا في ظل ما تروجه بعض وسائل الإعلام وشركات السياحة
والفنانون المتاجرون والدخلاء من إنتاج ممسوخ ومزيف ويسوقونه على أنه مادة
شعبية تعبر عن روح الشعب الأصيلة. ناهيك عما يصاحب ذلك من استغلال الفنانين
الشعبيين والتغرير بهم وسلبهم حقوقهم المادية والمعنوية. ولقد ارتفعت في الآونة
الأخيرة العديد من الأصوات التي تنادي بإيجاد هيئات علمية ومؤسسات رسمية لحماية
فنوننا الشعبية من عبث العابثين وجشع المتطفلين ممن تعوزهم الخبرة وينقصهم
التأهيل، وربما النوايا السليمة.
ويرى البعض من المختصين أن أي مساس بالفنون الشعبية أو تطوير لها، مهما كانت
دوافعه وأهدافه، أمر مرفوض ويعتبرونه تشويها وتحريفا. وهذا يصدق بدون شك في
مجال البحث الأكاديمي الذي هدفه الرصد والتوثيق العلمي والذي لا تسمح مناهجه
بأي تعديل أو تبديل في المادة الشعبية. لكن البحث العلمي مسألة تختلف في
الدوافع والأهداف عن استلهام الفنون الشعبية وتطويرها على يد الفنانين
والمبدعين. وعلى الرغم مما يبديه البعض من تحفظ حيال هذه المسألة إلا أن
استلهام الفنون الشعبية وتطويرها أمر مشروع، بل ومطلوب لأن الفنون الشعبية لأي
أمة من الأمم ثروة قومية لا تقل في قيمتها الروحية والمعنوية عن الثروات
المادية وينبغي الأستفادة منها واستثمارها على أن يتم ذلك وفق خطط مدروسة وأسس
سليمة وعلى أن نميز دائما بين المادة الأصيلة والمادة المطورة ولا نخلط بينهما.
وهناك فروق بينة لا تخفى على أحد من العارفين من حيث الغايات والوسائل والنتائج
بين عمليات التشويه والاستغلال والتي هي عمليات مرفوضة أساسا بجميع أشكالها
وبين عمليات الأستيحاء والأستلهام والتي هي في حد ذاتها عمليات إبداعية خلاقة
تنطلق من فهم حقيقي واستيعاب تام ووعي عميق بالمادة الشعبية وتضيف لها أبعادا
فنية وإنسانية جديدة وتوظفها ضمن أطر جديدة تتمشى مع معطيات الزمن المتجدد.
|