الكتابة والكلام
سعد الصويان
أصل
الكلمات ألفاظ منطوقة، أصوات حادثة، لكن الكتابة تنسينا ذلك أحيانا لدرجة أننا
لم نعد قادرين على تذكر كلمة دون أن نتخيل تهجئة حروفها وشكلها الكتابي على
الورق. إننا بذلك فقدنا القدرة على تمثل الطريقة التي يستطيع بها الرجل الأمي
أن يتخيل الكلمات كأصوات فقط دون أن ترتبط في ذهنه بتهجئتها وشكلها المرئي،
المكتوب. الشخص الأمي لا يرد على باله أن السلسة اللفظية تتألف من كلمات يمكن
فصلها عن بعضها البعض وأن الكلمات هي أيضا تتألف من "حروف" يمكن فصلها عن بعضها
البعض وإعادة مزجها لنؤلف منها كلمات أخرى. ولتوضيح الفرق في التصور بين الأمي
والمتعلم تخيل أبيات قصيدة مكتوبة وعلاقة الأبيات بعضها ببعض. إننا نشاهد
الأبيات متراصفة على الورق كل بيت فوق الآخر بحيث يكون البيت الأول هو الأعلى
والأخير هو الأسفل. ولكن هل يتصورها الرجل الأمي الذي لا يعرف شيئا عن القراءة
والكتابة بهذا الشكل؟ هل يراها مكدسة بعضها فوق بعض، أم مترابطة جنبا إلى جنب
واحدا مع الآخر مثل الحلقات في سلسلة ممتدة؟ هنالك مفردات ومصطلحات فنية تتعلق
بعملية النظم يستخدمها الشعراء الأميون تشير إلى أنهم يتصورون الأبيات متراصفة
واحدا فوق الآخر مثل تراصف الطوب في البنيان، وربما أن رتابة الوزن والقافية
خلقت لديهم هذا التصور. ولكن تصورهم عَكْس تصورنا، فهم يرون أن البيت الأول هو
الأسفل، حسب الأقدمية، تتلوه بقية الأبيات واحدا فوق الآخر حسب تسلسل التلفظ
بها حتى البيت الأخير وهو الأعلى، ولذلك نجدهم يطلقون على البيت الأول "ساس" أو
"مشد"، أي الأساس الذي تشيد عليه بقية الأبيات أو الشداد الذي تركب عليه. أما
كلام النثر غير المعقود بالقوافي والأوزان فإن معرفتنا بالكتابة التي تفرض
علينا أن نراه سطورا على الورق تحول دوننا ودون معرفة كيف يتصوره الشخص الأمي.
لكنني لاحظت من خلال قراءتي لمخطوطات ودواوين الشعر النبطي التي غالبا ما
يدونها جُمّاع من أشباه الأميين الذين يتعلمون الكتابة عن كِبَر أنهم يُقطّعون
الكلمات في الكتابة بطريقة خاطئة مما يدل على أنهم بحكم ذهنيتهم الشفهية ليس
لديهم تصور دقيق لطريقة تجزئة سلسلة اللفظ المنطوق إلى كلمات منفصلة كل منها
مستقل عن الآخر. ففي أحد المخطوطات مثلا كتب الناسخ كلمة "منجلي" هكذا "من جلي"
بينما كتب عبارة "من عَلي" هكذا "منعلي"، أي أنه لا يستطيع أن يفرق بين حرف
الجر "من" الذي يكتب مفصولا عن الإسم اللاحق به وبين المقطع "منـ" الذي يشكل
جزءا من الكلمة.
تجذّر الكتابة واتساع نطاقها في القرون الأخيرة أنسانا حقيقة كون اللغة شفاهية
في أساسها. الكلام حال التلفظ به عبارة عن سلسلة من الأصوات المتتابعة يتلو
بعضها بعضا عبر شريط زمني دائم الحركة. هذا التسلسل الزمني يفرض نوعاً من
الحدود والقيود على اللغة لأن الزمن لا يتقهقر وما فات في شريط الزمن المتحرك
لا يمكن إرجاعه. كما أنه يستحيل الكلام بأكثر من صوت واحد في آن واحد لأنه لا
بد للأصوات والكلمات أن يتلو بعضها بعضا كحبات العقد، الواحدة تلو الأخرى. ولا
أحد يستطيع أصلاً أن يصيخ السمع إلى أكثر من مصدر كلامي واحد في الآن ذاته
والزيادة على ذلك نسميها ضوضاء وضجيجاً لا يفهم. الكتابة تحول هذا الشريط
الزمني المتسلسل عبر الزمان إلى شريط بصري متسلسل عبر المكان الذي هو صفحة
المخطوط أو الكتاب.
يصف
شاعر الإغريق هوميروس الكلمات بأنها مجنحة لأنها تطير في الهواء حال التلفظ
بها، لكن الكتابة قصت أجنحة الكلمات ومنعتها من الطيران، ثبّتتها على الورق، أو
كما يقول العرب "قيّدَتْها". مع ظهور الكتابة بدأ الإنسان، ولأول مرة، يربط
اللغة بحاسة البصر. هذا التحول من حاسة السمع إلى حاسة البصر يعني تحول الكلام
من حدث زمني سريع الانفلات والزوال والتلاشي إلى شيء ثابت مستقر في مكان يمكن
الرجوع إليه متى ما نشاء. النص الملفوظ شريط سمعي يمر عبر الزمان، بينما النص
المكتوب شريط بصري يمر عبر المكان. بإمكانك أن تتوقف وتثبت نظرك على كلمة في
هذا الشريط البصري وتتمعن فيها لمدة طويلة دون أن يؤثر ذلك شيئا على الكتابة
المقيدة على سطح الورقة. لكنك لا تستطيع أن توقف الشريط السمعي لتتمعن في لفظة
من الألفاظ لأن سكون هذا الشريط السمعي يعني توقف تحققه وزوال وجوده، التوقف عن
الكلام يعني السكوت. يمكنك إيقاف شريط سينمائي لتثبت نظرك على شريحة منه لكنك
لو أوقفت شريطا سمعيا مسجلا فلن تسمع شيئا. التحقق والتلاشي مرتبطان أشد
الارتباط في حاسة السمع، فأنت حالما تبدأ التلفظ بالكلمة تحكم عليها بالزوال
بمجرد نطقها. أنت تستطيع أن تُبصر الكلمة المكتوبة، مهما كانت طويلة، دفعة
واحدة كما لو كانت كتلة واحدة، لكنك لا تستطيع نطقها، مهما كانت قصيرة، دفعة
واحدة، فلا بد من التلفظ بها مقطعا مقطعا، ولا تنتقل إلى مقطع إلا وقد زال الذي
قبله وتلاشى من الوجود، إنه أشبه شيء بالكتابة على الماء.
وجود النص الشفاهي وجود آني يرتبط دائما بقائله وبلحظة الأداء العابرة ويزول
بانتهائها دون أن يترك أثرا يدل عليه. وعلى هذا الأساس يعتمد استمرار وجود النص
الشفاهي وبقائه على استمرار حدوثه، تكرار الأداء وحضور المؤدي. النص الشفاهي
حدث عابر أما النص التحريري فهو شيء راسخ ساكن في الورق. الكتابة تمنح النص
وجودا ماديا ثابتا ومستقرا ومستقلا عن المبدع والمؤدي، وجودا سرمديا لا يتلاشى
ولا ينتهي بموت المؤدي. يتحقق وجود النص المكتوب ماديا بتسطيره على الورق أما
وجود النص الشفاهي فيبقى إمكانية كامنة في الذهن ولا يتحقق ماديا إلا حينما
يتشكل أصواتا وألفاظا على لسان المؤدي لحظة حدوث الأداء. الكتابة تسلخ النص من
المؤدي والمتلقي وتُشَيّئُه، أي تمنحه وجودا مستقلا وتجعل منه شيئا ماديا.
والطباعة كرست تشييء الكلمات (جعلها أشياء). قبل اختراع الطباعة لم يكن لحروف
الكلمات وجود فعلي قبل خطها يدويا على الورق، لكن الطباعة أدت إلى سبك حروف من
المعدن (أشياء) موجودة دائما وجاهزة للاستعمال الطباعي في أي وقت. الطباعة
توجِد الكلمات من أشياء معدة مسبقا (الحروف المطبعية) مثل الطوب الجاهز
المستخدم في البناء. إنها تثبت الكلمات على آلات ثم تطبعها منضدة مكانيا ومكررة
بنفس الترتيب على آلاف الصفحات. هذا أتاح إمكانية عمل فهارس نستطيع بواسطتها أن
نحدد المكان لأي كلمة نبحث عنها في الكتاب ونجدها مثلما نجد أي شيء نضعه على رف
في المستودع أو أي ملف في الأرشيف.
المفردة المكتوبة حال تدوينها على الورق تصبح شيئا مستقلا قائما بذاته وتفقد
صلتها بقائلها الذي ربما يكون قد فارق الحياة. أما اللفظ فإنه مرتبط ارتباطا
عضويا بشخصية المتلفظ، بنبرة صوته ونغمته وطريقة نطقه، إنه حدث، أداء حي لمؤدٍّ
حي. يتصور الشخص الأمي أن الكلمات تخرج من الجوف أو الصدر وتتدفق من الفم مثلما
يتدفق الماء من الصنبور، وسد الفم لإجبار المتكلم على السكوت يشبه بالنسبة له
إقفال الصنبور ولا يدرك أن ذلك يعني فقط منع أعضاء النطق من الحركة لإحداث
الصوت. لذلك فإن للكلمة المنطوقة التي تنبع من أعماق كائن حي فاعلية وحيوية
تفوق فاعلية الكلمة المكتوبة التي لا حياة فيها. وتكثر عندنا الأمثال التي تؤكد
على ذلك، مثل "من فم الكَحْلا أحْلى"، "من الراس ولا القرطاس"، "من الراس ما
يحتاج رد الرسايل".
ارتباط اللفظ بالمتلفّظ في تشكيل البنية الفكرية لدى الرجل الأمي يقابله ربط
اللفظ بما يشير إليه، بحيث أن مجرد التلفظ بالدال يستدعي حضور المدلول، أو أن
مجرد الكلام يغني عن الفعل أو يقوم مقامه. ولذلك نجدهم يتحاشون التلفظ بأسماء
الأمراض الخطيرة والكائنات المخيفة والخفية فيقولون"مكفي الشر" بدلا من
"السرطان" و"شيطاح" بدلا من "شيطان"، وهكذا. وربما يكون هذا الربط الذهني بين
الحديث والمتحدث والحدث هو الدافع إلى الاعتقاد بأن للهجاء أو الدعاء على
الغريم تأثيرا ماديا عليه. والدعاء على الغريم ما هو إلا امتداد للهجاء، فكلا
الأمرين يقصد بهما إلحاق الضرر بالخصم وكلاهما قائم على مفهوم "كن فيكون" وعلى
الاعتقاد بأن بداية الخلق والحدث الأول كان في الأصل كلمة: فالكلمة على لسان
الفاعل القادر تمتلك قوى سحرية وطاقات دفينة تجعل منها في حد ذاتها سبباً
كافياً لإحداث الحدث. وكلنا يعرف كيف كان الناس في الجاهلية يتحاشون الهجاء
ويخافون الشعراء. وقد ظل هذا الاعتقاد سائداً بصورة أو بأخرى في صحراء العرب
حتى عهد قريب وكان الناس يخشون دعوة الشاعر. والدعاء على الغريم الذي لا نجد له
في الشعر الجاهلي إلا حضورا باهتا لا يكاد يذكر تطور في الشعر النبطي ليصبح
موضوعا شعريا بارزا، خصوصا في قصائد الهجاء. وقد اشتهر بعض الشعراء بأن دعوتهم
مستجابة مثل ساكر الخمشي الذي دعا على أهل محبوبته لما رفضوا تزويجه منها حيث
يقول:
عسى
يجيهم من بني عمّهم صُوك// يومٍ به الممرور يَـبْزَعْ بْخاله
ويقال أن أقرباءهم أغاروا عليهم وقتل الرجل خاله.
|