أبو متعب يرسي قواعد البيت السعودي
سعد الصويان
كأي
مواطن سعودي في هذا البلد أتيحت لي خلال السنوات فرص ومناسبات عديدة للجلوس
والتحدث مع مختلف فئات المواطنين من مختلف الطبقات والشرائح الاقتصادية
والشعبية ومن مختلف المناطق الجغرافية والخلفيات الاجتماعية والتوجهات الفكرية
والمذهبية، من أساتذة الجامعات ورجال الفكر والثقافة إلى الناس البسطاء وعامة
الشعب، مرورا برجال المال والأعمال. ومهما تشعبت مواضيع الحديث وتعرجت مسالكه
فإنه لا بد وأن يتطرق بشكل أو بآخر للأوضاع العامة التي تعيشها بلادنا بحكم ما
تمر به من مخاضات وإرهاصات وما يكتنفها من تحديات. إننا نمر بمرحلة وعي جديدة
بدأنا نحس معها أننا لا بد وأن نبلور هويتنا الوطنية وأن نحدد دورنا ونرسخ
مكانتنا في هذا العالم المضطرب الذي أصبح يصوّب نحونا أنظاره ما بين صديق يود
أن نشد أزره وما بين مناوئ يتربص بنا الدوائر. بقدر ما تعاظمت الإنجازات
والمكاسب في العقود الأخيرة بقدر ما تعاظمت الآمال والتطلعات، وبقدر ما تحقق
الأمن ورغد العيش بقدر ما تزايد التوجس والقلق على مستقبل الوطن.
الإحساس بالمواطنة والانتماء للوطن والولاء له إحساس جديد علينا بدأ مع جيلنا
الحالي حيث لم يكن أسلافنا يعرفون الوطن بدلالاته المعاصرة. إننا لا نزال في
طور تجذير الهوية الوطنية وتجيير ولائاتنا التقليدية والتخلي عنها كلها لعيون
الوطن، الذي لا يزال بالنسبة للبعض مجرد فكرة ضبابية وبعيدة وغير ملزمة. وكسائر
الأشياء الجديدة فإننا فرحون بهذا الإحساس فرح الطفل بلعبة يخاف أن يخطفها منه
من هو أقوى منه، لذلك فإننا قد نبالغ أحيانا في التعبير عن حبنا للوطن وعن
حرصنا ومخاوفنا عليه. ومن هنا يغلب على جلساتنا الحديث المكرر عن السياسة وعن
الدولة ونظام الحكم. نظل نجتر هذه الأحاديث والنقاشات ونلوكها لنستطعم هذه
الفكرة الجديدة ونصقلها ونثبتها في أذهاننا كمفهوم تتحدد من خلاله علاقاتنا
بعضنا ببعض.
العلاقات بين المواطنين تختلف عن العلاقات القرابية والعشائرية وعلاقات الحي
والجيرة التي تقوم على التقارب المكاني وعلى التلاحم الأسري والتواصل المباشر
والثقة المتبادلة والمسؤوليات المشتركة. الامتداد المكاني للوطن والحجم
الديموغرافي والتنوع البشري واختلاف الأهواء والمشارب لا يسمح بهذا القدر من
الحميمية في العلاقات بين المواطنين. من هنا تبرز الحاجة لصياغة عقد اجتماعي
جديد يقنّن علاقاتنا وينظمها داخل مؤسسات رسمية وأطر قانونية تحفظ الحد الأدنى
من احترام الحقوق والحريات الشخصية لكل المواطنين. ومن هنا يصبح ترسيخ المواطنة
مرهون بترسيخ النظام والمؤسسات العامة التي تحفظ حقوق المواطن وتضمن حدا أدنى
من الإجماع بين المواطنين على ثوابت يتعارفون عليها ويسلمون بها جميعهم بما
يخدم مصالحهم المشتركة، بحيث لا تستقوي طائفة على أخرى ولا مذهب على آخر ولا
فئة على فئة، لأن مفهوم المواطنة يتجاوز كل الانتماءات الفرعية ويعلو عليها
ويحتويها ويصهر الجميع في بوتقة الوطن. الوطن هو الأرض والأم الرؤوم التي تحتضن
جميع أبنائها لينعموا بدفء حنانها، وهو الأب الرؤوف الذي يحمي جميع أبنائه
ويعدل بينهم ويرعاهم بدون تفرقة ويعدل بينهم في الميراث.
ولقد جسد الملك عبدالله هذه المعاني النبيلة والقيم السامية في خطابه التاريخي
الذي ألقاه أمام أهالي القصيم في زيارته الأخيرة للمنطقة حينما وجه نداء إلى
الجميع بالترفع عن التصنيفات الطائفية والمذهبية والفكرية. جاء هذا النداء
مبنيا على قناعة جلالته بأن الوطن يمر بمرحلة حرجة نحن فيها أحوج ما نكون إلى
الالتفاف والتلاحم والانصهار في بوتقة شعور وطني واحد ورؤية جماعية مشتركة،
وبأن ما يمارسه البعض من تصنيفات وتقسيمات فكرية وفئوية وطائفية وطبقية وقبلية
وإقليمية هي ممارسات تنهش جسدنا الاجتماعي وتسبب لنا حالة عصاب اجتماعي.
المعطيات والتحديات الدولية الراهنة تفرض علينا أن ندعم وحدتنا السياسية
والجغرافية ونحمي مكتسباتنا ونعززها بوحدة اجتماعية وثقافية تجعلنا نحس بأننا،
أبناء وطن واحد وأعضاء في مجتمع واحد متلاحم ومتماسك.
كل
يوم يمر يبرهن فيه الملك عبدالله على أنه مسكون بهموم الوطن وقضاياه. ولا تمر
فترة منذ تولي جلالته سدة الحكم دون أن يخرج من الديوان الملكي أمر جديد هو
بمثابة عمادة إضافية تسند البيت السعودي ووتد يشد أطنابه ويثبت بنيانه ويضيف له
مساحات أرحب من حرية الحركة والتعبير والانفتاح ويجعل منه ملجآ آمنا يتفيأ في
ظله الجميع وينعمون بخيراته في أمن ورخاء. وكان آخر هذه الأوامر الملكية ذلك
الأمر القاضي باستحداث هيئة البيعة والتي تحددت مهامها في ضبط وتقنين إجراءات
توارث السلطة بين أبناء وأحفاد الملك المؤسس طيب الله ثراه.
منذ
أن تم توحيد المملكة على يد المغفور له الملك عبدالعزيز لم يرتفع صوت واحد ضد
شرعية هذا الحكم أو أحقية العائلة المالكة في تداول السلطة. هناك عقد اجتماعي
غير معلن وإجماع ضمني بين كافة أهل المناطق وأبناء القبائل والطوائف الدينية
وفئات المجتمع المختلفة من المواطنين في المملكة بأنهم لن يدينوا بولائهم ولن
يمنحوا بيعتهم ولن يعقدوا اللواء بهذا القدر من التوافق والإجماع لغير هذه
الأسرة الكريمة. وإذا تسرب القلق أحيانا إلى النفوس، خصوصا في اللحظات الحرجة،
كان مصدر ذلك القلق هو الحرص على تماسك العائلة المالكة ذاتها ووحدة كلمتها ورص
صفوفها، خصوصا حينما يحين دور جيل الأحفاد من سلالة الملك عبدالعزيز لتسلم
الراية وحمل الرسالة. والتاريخ العربي حافل بأحداث الصراعات المأساوية الدامية
على السلطة، خصوصا حينما يتعلق الأمر بانتقال الولاية من المؤسس وأبنائه إلى
الأحفاد، وفق نظرية ابن خلدون في تداول السلطة. والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة
ولا داعي لتكرارها هنا فهي أكثر من أن تحصى. والسبب في ذلك كله عدم وجود قاعدة
تقنن التداول.
كانت مسألة الولاية والبيعة من المسائل التي تؤرق الناس قبل أن يحسمها الملك
عبدالله بأمره الأخير، بحيث أصبح تداول السلطة محكوما بتقنين واضح لا يحتمل
الاجتهادات الشخصية ولا المناورات التي قد تعطل المسيرة وتصرف الأنظار عن
الأهداف الأهم والتحديات الأكبر. شبح الصراع على السلطة وما قد ينتج عن ذلك من
احتمالات الصراع والانقسام وغيرها من الهواجس المؤرقة والتي كانت تقض مضاجع
الكثيرين في أوقات الأزمات الدولية والمحلية عالجها الملك عبدالله ببصيرته
المعهودة بما يضمن تماسك أفراد النخبة الحاكمة في ظل هذه المرجعية الجديدة
بآلياتها المحددة. نظام الهيئة الجديد بقدر ما يقنن المسائل فهو أيضا يرفع عنها
الانفراد باتخاذ القرارات المصيرية بما يكتنف ذلك من حساسيات وإحراجات ويحيلها
من قرارات فردية إلى قرارات جماعية ذات طابع قانوني مؤسساتي. وكأن الملك
عبدالله بهذا القرار الحكيم أراد أن يؤمن المستقبل السياسي لمواطني المملكة
مثلما أمن مستقبلهم الاقتصادي والمعيشي في قرارات سابقة. إنه لبنة جديدة تضاف
إلى لبنات أخرى وضعها الملك عبدالله لرص بناء الهيكلية السياسية وتوسيع قاعدة
المشاركة في تقرير مستقبل هذا البلد وتحديد مصيره ابتداء بالانتخابات البلدية
ومرورا بتوسيع مجلس الشورى، ثم فتح ملف الحوار الوطني بين المفكرين والمثقفين
مما هو دليل مشرف على حكمة مليكنا وبعد نظره. هذه كلها تشكل خطوات محسوبة على
طريق التحول إلى مجتمع مدني يسوده القانون وتحكمه المؤسسات وتصان فيه الحريات
والحقوق.
الأمر بتشكيل هيئة البيعة خطوة جريئة أثلجت الصدور وشكلت مفاجأة سارة للجميع.
وأجمل ما فيها أنها مؤشر واضح على شجاعة الملك عبدالله وبعد نظره ونفاذ بصيرته
مما يجعلنا أكثر تفاؤلا وتوقعا للمزيد من الخطوات الإصلاحية المماثلة والجريئة
على كل الأصعدة وعلى نفس الوتيرة الحكيمة المتدرجة التي تجعل من هذه الخطوات
خطوات فعالة ومؤثرة دون أن ينتج عنها هزات أو صدمات تربك مسيرتنا التحديثية
وتعكر صفو حياتنا الآمنة. هذا الأمر الذي أصدره الملك عبدالله يذكرنا بلحظات
مفصلية في تواريخ الشعوب ومسيرة نهضتها ابتداء بالماغنا كارتا البريطانية
magna carta
وحتى الدستور الأمريكي. ولعلي لا أرتكب شططا حين أجنح في الخيال وأحلم باليوم
الذي تصبح فيه هيئة البيعة حينما تنضج الظروف بمثابة نواة لما يشبه مجلس
اللوردات ومجلس الشورى بمثابة نواة لما يشبه مجلس العموم، مما يقوي من التلاحم
العضوي بين المؤسسة الحاكمة ومؤسسات المجتمع المدني. وعلى أية حال فأنا من
الذين يؤمنون بأن المهم ليس هو شكل الحكم وإنما مضمونه وما يترتب عليه من نتائج
براغماتيكية تسهم في حفظ الأمن والاستقرار وتضمن الحقوق وتصب في مصلحة الجميع
وتزيد من وتيرة النماء والرخاء والازدهار.
إنجازاتك ياأبا متعب سوف تحفر اسمك في ذاكرة الأجيال وسوف تضيء سيرتك صفحات
التاريخ، فلقد تعودنا في ظل قيادتك أن نكون دائما متفائلين وعلى أن نفيق ونصحو
كل يوم على العشم فيك والرجاء، فأنت لم تخيب آمالنا قط وكنت دوما عند حسن ظن
شعبك فيك منحوك حبهم بعدما تيقنوا من حبك لهم ولمسوا برك بهم وحرصك عليهم جميعا
دون تفريق أو تمييز. لقد كنت عادلا مع الجميع، والعدل أساس الملك.
|