الاخّ سعودي؟!
سعد الصويان
السعودة كهدف استراتيجي تحتاج إلى تشخيص نتعرف من خلاله على مختلف جوانب هذه
القضية لنحدد عوامل الفشل وعوامل النجاح. ويمكن تلخيص المشاكل التي تعيق تطبيق
برنامج السعودة في نقطتين؛ أولهما أن أسلوب حياتنا باهض التكاليف بحيث أنه ليس
من المجدي سعودة الوظائف ذات الرواتب المتدنية التي لا تتطلب مهارات فنية
وكفاءات عالية، ومن الجانب الآخر برامجنا التعليمية ليست على المستوى الذي يؤهل
خريجي الجامعات والمعاهد لتولي المواقع الوظيفية التي تتطلب مثل هذه المهارات
والكفاءات وتدر دخلا مجزيا.
تصور موظفا بسيطا راتبه ألفين أو ثلاثة أو حتى خمسة آلاف ريال. هل يستطيع هذا
الموظف بهذا الراتب المتواضع أن يعيل نفسه وزوجته وأولاده ويعيشهم عيشة كريمة
في مجتمعنا اليوم؟ هناك كراء المنزل وهناك فواتير الماء والكهرباء والتلفونات،
هذا عدا مصاريف البيت ومصاريف السيارة، والحبل على الجرار. ثم إن عدم وجود
مواصلات عامة يعني أن الموظف أمام أمرين؛ إما أن يشتري سيارة للذهاب إلى عمله
بما يترتب على ذلك من مصاريف أو يستقل سيارة أجرة ذهابا وإيابا وهذا سيكلفه
أضعاف راتبه. لا الجو ولا تصميم الشوارع والطرقات ولا العادات الاجتماعية عندنا
تسمح للموظف باستعمال الدراجة أو أن يذهب لعمله مشيا على الأقدام ويوفر قيمة
السيارة. وفي وضعنا الحالي، خصوصا في المدن، ضاقت المجالات التي تستطيع فيها
المرأة أن تعمل لتساعد زوجها في تحمل أعباء الحياة. حينما كنا مجتمعا تقليديا
كانت المرأة تتمتع بمساحة أكبر من حرية الحركة وكانت العديد من مجالات العمل
مفتوحة أمامها جنبا إلى جنب مع الرجل. أما الآن فقد نزعنا الثقة تماما من
النساء ولم نعد نسمح للمرأة أن تخرج من باب بيتها بدون محرم. لذلك لو فرض أن
زوجة ذلك الموظف البسيط وجدت عملا فإنه إما أن يجلب لها سائق بمرتب قد يعادل
مرتبها أو أنه سيضطر إلى اقتطاع جزء من الوقت الذي يفترض أن يمضيه في وظيفته
ليقوم بنفسه بمهمة توصيلها إلى مقر عملها، هذا عدا توصيل الأولاد إلى المدارس.
لاحظ أن هذا الموظف الذي نتحدث عنه "مقطوع من شْجِره"، أقصد أننا نفترض أنه
ليست عليه أية التزامات لا مادية ولا اجتماعية تجاه والديه أو إخوانه وأخواته
أو أقربائه، وإنما تنحصر مسؤوليته في إعاشة أسرته النووية. في ظل هذا المرتب
الضئيل وهذه المسؤوليات التي تفرضها الحياة الاجتماعية كيف نتوقع من هذا الموظف
ورب الأسرة أن يصرف ما يلزم من الوقت والجهد والتركيز الذهني لمهامه الوظيفية
بكل ما تتطلبه الوظيفة من الانتماء والولاء للمؤسسة التي يعمل فيها والمهنة
التي يؤديها. لا أظن أن هذا الموظف سيدخر جهدا في سبيل الحصول على مصدر دخل
إضافي مما قد يقود إلى الإهمال والتسيب الوظيفي، كما هو حادث الآن في جري بعض
الموظفين وراء سراب الأسهم على حساب أداء مهامهم الوظيفية، وربما يكون هذا أهون
الشرور مقارنة بالخيارات الأخرى التي قد يضطر الموظف للجوء إليها لزيادة دخله.
كفانا الله وإياكم شر الحاجة وذل العَوَز.
أما
الوظائف ذات الرواتب المجزية فإنها تحتاج إلى تعليم وتدريب ومهارات وشهادات
عليا في تخصصات علمية ومهنية وفنية. لو ألقيت نظرة فاحصة على مناهج التعليم
وطرق التدريس وتأهيل المدرسين في مؤسساتنا التعليمية على مختلف المستويات من
الابتدائي مرورا بالثانوي حتى الجامعي والمعاهد العليا لخرجت بنتيجة واحدة وهي
أن نظامنا التعليم لا يؤهل الخريجين، إلا ما قل، لتسلم وظائف فنية أو إدارية أو
حتى تربوية، ولو تسلموها لكان أداءهم فيها ضعيفا جدا. إن لم نُعِد النظر في
مناهجنا الدراسية ونطور سياساتنا التعليمية فإننا لن نستطيع الاستغناء عن
العمالة الوافدة في الكثير من المجالات الوظيفية التي تحتاج إلى خبرة وتأهيل.
مناهجنا التعليمية تدفع الطلاب إلى أن يصرفوا وقتا أكثر وجهدا أكبر للبحث في
أمور الحياة الآخرة على حساب أمور الحياة الدنيا. ولقد خلقنا نوعا من التضادية
والصدامية بين الدين وبين كافة العلوم التطبيقية النافعة في هذه الحياة أو
حورنا هذه العلوم تحت غطاء أسلمة العلوم بحيث أننا أفرغناها من مضامينها
العلمية والفكرية والبحثية بحيث لم تعد بذات فائدة عملية.
في
الماضي كانت الدولة تلتزم بتوظيف الخريجين لأن سياستها كانت مبنية على ضمان
وظائف للخريجين في مختلف المؤسسات الحكومية والتعليمية، لكن المملكة في السنوات
الأخيرة تعيش حالة تفجر ديموغرافي أصبح معه عدد الخريجين الجامعيين فوق طاقة
استيعاب مؤسسات الدولة وقدرتها على توظيفهم، حتى القبول في الجامعات لم يعد
مضمونا كما كان في السابق. الملاذ الوحيد لاستيعاب أفواج الخريجين هو القطاع
الخاص. لكن ليس من العدل إلزام القطاع الخاص بتوظيف شباب يحملون شهادات بلا
تأهيل حقيقي يهيؤهم للدخول إلى سوق العمل التنافسي. فالقطاع الخاص يقوم على
المنافسة وأساسه الإنتاجية وتحقيق هامش من الربحية لا يتحقق إلا بتشغيل من هم
على كفاءة فنية عالية تمكنهم من أداء المهام المناطة بهم. لو طبق القطاع الخاص
سياسة الالتزام بتوظيف الخريج لمجرد أنه سعودي لتحول إلى مؤسسات مترهلة شبيهة
بمؤسساتنا الحكومية في تردي الإنتاجية وقلة الإنجاز وعدم الانضباط، وهذا سوف
يترتب عليه كارثة اقتصادية محققة. لا بد من تحويل هذا الخريج إلى طاقة منتجة
وفعالة قبل الدفع به إلى سوق العمل في القطاع الخاص حتى يساهم في تنمية وتطوير
هذا القطاع وإلا أصبح عبئا عليه وكبده خسائر فادحة تضر بالاقتصاد الوطني.
لا
بد أن نستوعب الدروس من الماضي ونحاول تعديل أنماط السلوك التي تعودنا عليها في
السنوات الماضية لنصبح مجتمعا منتجا بدلا من مجرد مجموعة من المستهلكين الذين
تعيلهم الدولة، هذا إن أردنا أن نحفف من اعتماد الدولة في دخلها على البترول
وأردنا تنمية القطاع الخاص. لكن هذا لن يتحقق ما لم نتمكن من إعادة هيكلة
مؤسساتنا التعليمية وتطوير المناهج والتركيز على العلوم والمهارات النافعة التي
تنمي القدرات الذهنية والمهارات الفنية التي يحتاجها سوق العمل. ثم لا بد من
تطوير كافة الأنظمة واللوائح التي تحكم العلاقات التعاقدية بين العامل وصاحب
العمل وتطوير الجهاز القضائي ليبت في القضايا التجارية والعمالية والوظيفية
بشكل عاجل وعقلاني، لأن الطبيعة التنافسية الحادة للقطاع الخاص، خصوصا بعد
انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية، لا يحتمل التعقيدات والعشوائية والمزاجية
والتأخير، فلا بد من العقلانية والشفافية والوضوح والسرعة في كافة الإجراءت
واللوائح النظامية التي تحكم قطاع المال والأعمال.
إضافة إلى التأهيل والتدريب وحفظ الحقوق فإنه لا بد من خلق بيئة عمل صحية
ومستقرة بحيث يحس معها الموظف أو العامل أنه بشيء من الجهد والمثابرة والانضباط
والولاء لجهة العمل يستطيع أن يحقق طموحاته المشروعة والمعقولة. وهذا لن يتحقق
في ظل ما تعاني منه المؤسسات الحكومية، وحتى مؤسسات القطاع الخاص، من تفشي
الرشوة والمحسوبية والواسطة ومزاجية القرارات. هذه آفات تقود إلى الإحباط
واللامبالاة وفقدان الأمل بمستقبل واعد لدى الموظف الذي حالما يلتحق بوظيفته
يجد من هو أقل منه كفاءة يتقدم عليه بحكم أنه ابن فلان أو أن أحته متزوجة من آل
فلان أو أن أباه خدم عند ابن فلان أو بحكم خلفيته الأسرية أو مهارته في فن
العلاقات العامة. ناهيك عن المحسوبية أيضا في منح العطاءات وعقود المشاريع
والمقاولات، خصوصا في المشاريع الحكومية، على حساب الخبرة وجودة التنفيذ، مما
يؤثر سلبا على القطاع الخاص.
نجاح السعودة مرتبط بنجاح تجربة القطاع الخاص وتحول اقتصادنا من اقتصاد ريعي
يعتمد على البترول إلى اقتصاد رأسمالي حر. الاقتصاد الرأسمالي اقتصاد عولمي
تنافسي يتطلب الانفتاح الاجتماعي والفكري وتشجيع الإبداع والتجديد بدل المحافظة
والتقليد والحركية بدل الجمود. الاقتصاد الرأسمالي اقتصاد حر لا ينتعش إذا فرضت
عليه القيود، ولا يزدهر بدون حرية إعلامية تسمح بتدفق المعلومات وحرية فكرية
تشجع على البحث العلمي الذي يخرج لنا كل يوم بمخترعات وأفكار جديدة قابلة
للتصنيع والتسويق، وحرية اجتماعية تفتح المجال أمام الفرد ليمارس حريته في
الاختيار بين مختلف البدائل المتاحة في السوق من السلع والمنتجات. لكن هذه
القيم الجديدة تتعارض مع القيم التقليدية المحافظة التي لا نزال متمسكين بها
والتي ورثناها من مخلفات الاقتصاد الزراعي والرعوي الذي كان سائدا في الماضي.
باختصار، السعودة ليست قرارا تتخذه تلك الوزارة أو ذلك الجهاز الحكومي، وهي
ليست نجم يعلق في الفضاء ولا إجراء يطبق في فراغ. إنها سياسة متكاملة تتداخل في
تنفيذها العديد من الجهات التي يلزمها التنسيق والتعاون فيما بينها لإنجاح
التجربة. السعودة برنامج له تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتعليمية
وتداعيات أخرى لا تخفى على فطنة القارئ.
وعموما فإنه قبل الحديث عن السعودة، إن كان المقصود بذلك توظيف الخريجين الجدد،
ماذا عن عشرات الآلاف من الموظفين والموظفات الذين أمضوا زهرة شبابهم وسنين
عمرهم يعملون على بند الأجور وبند الساعات بما في ذلك من هضم لحقوقهم وحرمانهم
من الترقيات والعلاوات والتأمينات والإجازات والاستقرار الوظيفي وكافة
الامتيازات التي هي من حق الموظف! أين وزارة العمل والخدمة المدنية عن هؤلاء
الذين لهم الأولية لتصحيح وضعهم المأساوي، خصوصا أن السنين التي قضوها في
الخدمة أكسبت الخبرة والتأهيل.
|