البدو والهنود الحمر
سعد الصويان
لو
أتيحت لك الفرصة لزيارة جامعة من جامعات أمريكا الشمالية أو الجنوبية أو كلية
من الكليات الصغيرة هناك فلا بد أنك ستجد من ضمن المواد التي تدرّسها مواضيع
تتعلق بالهنود الحمر: ثقافتهم، تاريخهم، قبائلهم، لغاتهم، آدابهم، فنونهم،
موسيقاهم، صناعاتهم، وهلم جرا. بل إن بعض الجامعات تخصص أقساما بكاملها لتدريس
هذا التخصص. هذا مع العلم بأن الرجل الأبيض لا تربطه أي صلة عرقية أو ثقافية أو
لغوية بهذا الجنس من البشر، بل إن العداء كان هو سيد الموقف بينهما قبل بسط
البيض سيطرتهم التامة على الأمريكتين، وعلما بأن الهنود الحمر صاروا لا يشكلون
الآن إلا نسبة ضئيلة من شعوب أمريكا. كل ما هنالك أن الهنود الحمر كانوا هم
السكان الأصليين لأمريكا وأن غريزة حب الاستطلاع ونهم البحث عند الرجل الأبيض
لا حدود لهما. ولا يقل اهتمام الأستراليين بسكان أستراليا الأصليين عن اهتمام
الأمريكيين بالهنود الحمر. ناهيك عن اهتمام الجامعات الفرنسية بشمال أفريقيا
التي استعمرتها في السابق، وكذلك هي الحال بالنسبة لبريطانيا مع شعوب أفريقيا
والهند، حيث يوجد في بريطانيا معهد من أعرق المعاهد لمثل هذه الدراسات هو معهد
الدراسات الأفريقية والآسيوية
School of Oriental & African Studies
الذي تخرج منه الكثير ممن ينتمون إلى طبقة الإنتلجنسيا عندنا. وهناك تخصص مستقل
له مناهجه ونظرياته يدرّس في الغرب ويتخصص في دراسة الشعوب والمجتمعات الأخرى،
وخصوصا الجماعات البدائية والقبلية والتقليدية، هو علم الإنسان أو
الأنثروبولوجيا، ومنه يتفرع علم الفلكلور والثقافات التقليدية. وعندهم تخصصات
أخرى تسمى Area Studies
تُعنى بدراسة مناطق معينة مثل الشرق الأوسط أو الصين، وهذه التخصصات الحديثة هي
الوريث الشرعي لما كان يعرف سابقا بالدراسات الاستشراقية
Oriental Studies.
الجامعات الأمريكية تدرّس ثقافة الهنود الحمر والجامعات الأوربية تدرّس ثقافة
المجتمعات الأفريقية، علما بأنه لا توجد أي صلات تربط الرجل الأبيض بهذه
الشعوب. أما نحن الذين ندعي ونفتخر ونتبجح بأننا انحدرنا من أصول بدوية وكانت
البداوة وقيم الصحراء هي نمط الثقافة السائد حتى عهد قريب في الجزيرة العربية
فإن جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية لا تهتم إطلاقا بالمجتمعات البدوية وثقافة
الصحراء، وتعزف عزوفا تاما عن مثل هذه الدراسات والأبحاث. بل إن مجرد إثارة
موضوع الأنثروبولوجيا والدراسات الشعبية يعد جرما أكاديميا من يرتكبه قد يعرض
نفسه للمساءلة. إن أبديت اهتماما باللهجات المحكية قالوا إنك تسعى إلى تقويض
الفصحى، وإن أبديت اهتماما بالأدب الشعبي قالوا إنك تشجع الإقليمية، وإن حاولت
دراسة البادية وشؤونها والنظام القبلي قالوا إنك تثير النعرات القبلية، وإن
درست التاريخ الشفهي قالوا إنك تكرس الإقليمية. هذه المواقف الأيدولوجية
الخاطئة تضيع علينا فرصا لن تتكرر لفهم أنفسنا من خلال دراسة ثقافتنا وتاريخنا
الاجتماعي والتي هي في الطريق إلى التلاشي والاندثار السريع. إننا بهذه الطريقة
أصبحنا، وللأسف، مضطرين للرجوع إلى الكتابات الغربية لمعرفة أي شيء عن أنفسنا
وعن جذورنا الثقافية.
إننا نعيش حالة من التناقض عجيبة غريبة وانفصام في الشخصية لا يُرجى لنا منه
بُرء. كم نلهث في البحث وراء المؤلفات الغربية وكتب الرحالة عن قبائل الجزيرة
العربية وعن ثقافتنا التقليدية وآدابنا الشعبية. لكن لو أقدم أحد منا على
الاضطلاع بالكتابة في هذه المواضيع لثارت حوله الشكوك وارتاب الناس في أمره
وتوجّسوا خيفة من نواياه وساورتهم الشكوك حول مؤهلاته الأكاديمية. إن كَتَب
الغربيون عن هذه المواضيع صارت كتاباتهم جواهر ثمينة ودرر مصونة، وإن كتب عنها
أحد من أهل الدار تحولت كتاباتهم بقدرة قادر إلى مواضيع سطحية وتوافه لا تستحق
الاهتمام. لا أجد تفسيرا لهذه الظاهرة المحيرة إلا أننا وصلنا إلى حالة من
الضعف وعدم الثقة في النفس بحيث صرنا لا نثق بشهادتنا في أنفسنا وأصبحنا بحاجة
ماسة لشهادة الآخر، الآخر الذي نحتاج لشهادته وفي الوقت ذاته لا نثق بنواياه
تجاهنا. إننا في الواقع لا يهمنا الجانب الموضوعي النقدي الفاحص من كتابات
الآخرين حولنا بقدر ما نلتمس ما تتضمنه هذه الكتابات من التزكية والإشادة
والمديح والإطراء التي يحتمها أحيانا تحضّر الآخر وتأدبه معنا أكثر من
استحقاقنا لها، لكننا لا نحتمل منه النقد الموضوعي و"نزعل" لو تجرأ على قول ما
يعتقده فينا حقيقة وبالمكشوف. إنها طفولة ما بعدها من طفولة.
في
المقابل هناك ثلة من"المتثيقفين" بيننا ترى أن الدافع الأساس وراء الدراسات
الأنثروبولوجية والفلكلورية واللهجوية مجرد هدف استعماري بحت، لا غير، ومؤامرة
ضد الشعوب المغلوبة على أمرها، ولذا يحذروننا ضدها ويعيذوننا منها ويدعوننا إلى
اجتنابها والابتعاد عنها. ودون أن ننفي إمكانية استغلال الدول العظمى لمثل هذه
الدراسات لتحقيق مآرب استعمارية تسلطية، إلا أنه لم يعد من المفيد ولا من
المقبول الافتراض بأن هذا هو الدافع الوحيد لها. علينا أن ندرك بأن الدول
العظمى سخرت جميع العلوم الحديثة لمآربها وخدمة مصالحها، هل لنا والحال هكذا أن
نبتعد عن العلوم الحديثة برمتها لأن الاستعمار استطاع أن يسخرها لصالحه! أم أن
علينا أن نأخذ بزمام المبادرة ونسخر نحن بدورنا علوم العصر لتحقيق مصالحنا
ومحاربة الاستعمار؟ العلم عندهم ليس له حدود، لا جغرافية ولا موضوعية. وما كرسه
هؤلاء المستشرقون من الوقت والجهد لدراسة لهجاتنا وآدابنا الشعبية وثقافاتنا
التقليدية لا يعادل شيئا مما كرسوه لدراسة القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي
واللغة العربية وآدابها. هل لنا أن نرفض ذلك كله لأنها دنسته أيدي المستشرقين؟!
وليست الرغبة في الاستعمار دائما هي الدافع الوحيد الذي حدا بعلماء الغرب إلى
دراسة الثقافات والشعوب الأخرى ولهجاتها وادابها الشعبية وثقافاتها التقليدية.
فهم لم يلتفتوا إلى تلك المجتمعات إلا بعد أن قتلوا لهجاتهم وأساطيرهم وآدابهم
الشعبية بحثا ودرسا. تُرى هل كانوا بذلك يتآمرون ضد أنفسهم؟! إنهم لا يعدمون من
اتجه إلى دراسة المجتمعات الأخرى مدفوعا بحب صادق في المعرفة والبحث عن
الحقيقة، وربما حبا في تلك الشعوب وتعاطفا معها. ولا ننس أن المناهج العلمية
التي تسيّر أبحاثهم تحتّم عليهم مقارنة ما لديهم بما لدى الآخرين ليعمقوا فهمهم
لأنفسهم وللآخر وللعالم كله وليؤسسوا نظرياتهم وتعميماتهم على أسس علمية متينة
وأرضية صلبة. ولذلك هم أقدر على الحوار معنا منا على الحوار معهم، لأنهم هم
يعرفون الكثير عنا بينما نحن لا نعرف شيئا لا عنهم ولا عنّا. إن غريزة
الاستطلاع وحب المعرفة والاستكشاف دفعت بهم للصعود إلى المريخ والسير على سطح
القمر، فهل يستكثر عليهم دراسة أي شيء على كوكبنا الأرضي! كلمة أخيرة.
العلم هدف في حد ذاته والفكر له قوة دفع ذاتية يستحيل صدها أو الوقوف في
طريقها. كم من العلماء شنقتهم الكنيسة وصقلتهم المصاقل في أوربا العصور الوسطى
لأنهم لم يستطيعوا التوقف عن التفكير ومقاومة الرغبة الجامحة في المعرفة والبحث
عن الحقيقة والجهر بها. قل عنه حب، قل عنه إدمان، قل عنه ما شئت. لكن الشيء
الأكيد أنك لا تتحكم في عقلك، عقلك هو الذي يسيّرك ويتحكم فيك. الويل الويل لمن
مِنّا يطلق لعقله العقال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله// وأخو الجهالة في
الشقاوة ينعم (عندنا بَسّ!).
|