نجد واليونان
سعد الصويان
كلما توغلت في قراءاتي عن حالة اليونان في عصر ما قبل الميلاد ألاحظ أوجه شبه
كثيرة بينها وبين نجد في عصر ما قبل القرن العشرين. لو تفحصنا الأوضاع السياسية
والاجتماعية في الجزيرة العربية قبل نهضتها الحديثة لوجدناها بشكل عام لا تشبه
الأوضاع في المناطق النهرية المجاورة مثل حوض النيل وبلاد الرافدين التي كانت
تشكل كيانات سياسية كبيرة يتخذ الحكم فيها طابع المركزية والاستبداد. كانت
أوضاع الجزيرة العربية أقرب شبها ببلاد اليونان القديمة. ولنبدأ بالجغرافيا
والمناخ. لا توجد في اليونان أنهار دائمة الجريان ومناخها يميل إلى الجفاف
والزراعة فيها محدودة لقلة الأراضي الخصبة التي تتوفر فيها المياه والتي تنحصر
في السهول الضيقة التي تحيطها الجبال الجرداء. كل هذه العوامل تشكل عائقا يحول
دون ازدهار الزراعة وتجعل اليونان في حاجة مستمرة إلى الخارج في تأمين جزء كبير
من متطلباتها الغذائية، خصوصا القمح، مثلهم في ذلك مثل أهل الجزيرة الذين كانوا
يجلبون معظم ما يحتاجونه من الحبوب من العراق والشام، أو كما يسميها البدو
"ديرة الحِبّان" (أي الحبوب) أو "ديرة الريف والرغيف" أو "دويد العسل" (دويد
تصغير ديد أي نهد أو ضرع، أي الضرع الذي يدر العسل، لاحظ العلاقة بين هذه
النعوت وما ورد في الكتاب المقدس من أن تلك البلاد كانت بلاد اللبن والعسل (land
of milk and honey..
ومن أهم أشجار بلاد اليونان شجرة الزيتون التي تشبه النخلة في وفرة الإنتاج
وعدم الحاجة إلى عناية فائقة وكلاهما ثمرته سهلة النقل والحفظ، إلا أن كلا
منهما بطيئة النمو تحتاج في البداية وقبل أن تبدأ الإنتاج إلى عمل شاق وصبر
وجهد متواصل يتطلب سنينا من الاستقرار السياسي، لذلك لا تزدهر زراعتها إلا في
ظل سلطة قوية تفرض الأمن، وكان قطع أشجار الزيتون والنخيل من الأساليب المتبعة
في الحروب لإضعاف المدينة المحاصرة وتجويع أهلها، ومن هنا أصبح غصن الزيتون
وجريد النخل كلاهما يرمزان للسلام والاستقرار.
وقد
حالت وعورة التضاريس والطبيعة الجبلية دون الاتصال بين الجزر التي تتشكل منها
بلاد اليونان والتي تتناثر في البحر كما تتناثر الواحات في صحراء الجزيرة
العربية التي تفصلها الرمال عن بعضها البعض. هذا نَمّى لدى الإغريق النزعة
الانفصالية، أو الروح الاستقلالية. لذلك كانت البلاد مقسّمة إلى عدة وحدات
سياسية صغيرة تعرف باسم المدينة الحرة أو المدينة الدولة
polis،
وهي دويلة ذات سيادة مستقلة تتألف من مركز حضري، أي مدينة والمناطق القريبة
منها والخاضعة لها. وتقوم دولة المدينة في بداياتها على أساس قبلي، حيث أن
القبيلة كانت هي التنظيم السائد بين الإغريق أثناء هجرتهم إلى جنوب شبه جزيرة
البلقان حتى استقرارهم في الجزر اليونانية. وكان سكان كل مدينة ينقسمون إلى
فئات ثلاث هي: أهل الجبل من الرعاة، وأهل السهل من المزارعين، وأهل الساحل من
التجار، وكانت كل فئة من هذه الفئات الثلاث بحاجة إلى الأخرى وقامت بينها
علاقات تبادل وتكامل اقتصادي وسياسي وعسكري. وهذا قريب الشبه بما كان عليه
الوضع في نجد إذا أضفنا طبقة تجار العقيلات إلى ثنائية البدو والحضر.
أضف
إلى ذلك أن شح الموارد في بلاد اليونان وفي بلاد العرب دفع بالسكان هنا وهناك
إلى المغامرة وامتهان التجارة والنقل والعمل في مجالات الاستيراد والتصدير.
مثلما كانت سفن التجار الإغريق تمخر عباب بحر أيجة وتصارع أمواجه العاتية كانت
إبل العقيلات تخترق متاهات الصحراء العربية ومفازاتها. البعير، سفينة الصحراء،
جعل الإبحار في الصحراء أمرا ممكنا. وكما هي الحال في أثينا القديمة أو أسبرطة،
يشكل التجار في إمارات وسط الجزيرة العربية ومدنها المستقلة، وبالتحديد تجار
عقيل، طبقة أوليجاركية تلعب دورا هاما في تشكيل سياسة المدينة ورسم علاقتها مع
القرى والمدن المجاورة والقبائل القريبة أو تلك التي تمر عبرها قوافلها
التجارية، وكان لهم تأثيرهم البالغ في توجيه سياسات الأمير لأنه في الواقع
اعتلى الإمارة بموجب تعاقد ضمني أو صريح مع هذه الطبقة بالذات يلتزم بموجبه
برعاية مصالحها مقابل الحصول على دعمها ومساندتها. ومثلما قامت صراعات بين مدن
الإغريق في محاولة كل منها للسيطرة على طرق التجارة في بحر أيجة كذلك قامت
صراعات بين مدن الجزيرة العربية للسيطرة على طرق التجارة الصحراوية. ويذكر
ابراهيم المسلم في كتابه عن العقيلات أن أمير بريدة مهنا الصالح قد اكتسب ثقة
الولاة في بغداد والبصرة، وتمكن أن يترأس قوافل الحجاج منافسا لآل رشيد، وكانت
قوافله عام 1265هـ/1849م يصل عدد الإبل فيها إلى خمسين ألفا تحمل الحجاج وحرسا
يصل إلى عشرين ألفا.
تتحدث الكتب كثيرا عن نشاطات اليونانيين والفينيقيين في مجال التجارة لكننا
نادرا ما نقرأ شيئا عن العقيلات. عقيل مؤسسة تجارية تمثل حلقة من أهم حلقات
الوصل التي تربط اقتصاد البادية الرعوي باقتصاد الحاضرة الزراعي. كانت الصحراء
العربية تصدر كل سنة بواسطة العقيلات إلى بلدان الهلال الخصيب ومصر مئات الرؤوس
من الخيل وآلاف الرؤوس من الإبل التي تنتجها مراعي الصحراء ويشتريها العقيلات
من البدو. إضافة إلى ما يشتريه العقيلات من البدو من منتجات لبنية مثل السمن
والأقط. ويشتري العقيلي من البدوي الإبل التي يستخدمها في نقل البضائع والحجاج
والمسافرين، والكثير من العاملين في قوافل العقيلات من أبناء القبائل، خصوصا
الأدلاء والحراس والرعاة والملاحيق وما شابه ذلك من مهن القيام على الإبل
والعناية بها. ويدفع العقيلي لشيخ القبيلة مبلغا من المال مقابل كل بعير يشتريه
من مضارب القبيلة، ويدفع للخوي والرفق من أبناء القبيلة الذين يتعهدون بحماية
روحه وممتلكاته من أبناء قبيلتهم والتكفل برد ما ينهبونه من ماله، هذه الخوة
التي يدفعها تجار عقيل لشيوخ البادية الذين يمرون بديارهم ويستقون من آبارهم هي
الإيلاف الذي كانت تدفعه قريش لقبائل الجاهلية. ومثلما كانت قريش تسير
قوافلها في فصلي الشتاء والصيف فإن قوافل العقيلات تختلف في الحجم وخط السير
والفصل الذي تتحرك فيه تبعا لاختلاف أغراضها ونشاطاتها التجارية. وموعد انطلاق
القوافل التي تنقل البضائع التي تجلبها السفن الشراعية من أوربا إلى موانئ
البحر الأبيض المتوسط أو من شبه القارة الهندية إلى موانئ الخليج محكوم بمواعيد
هبوب الرياح الموسمية التي تسير هذه السفن. القوافل التي تجلب القمح والحبوب من
الشام تبدأ رحلتها إلى نجد بعد موسم الحصاد والتي تجلب التمور من العراق بعد
صرام النخيل. أما القوافل التي تجلب الخيل والإبل فإنها عادة تغادر نجد قبيل
فصل الصيف الحار مع نهاية فصل الربيع بعد أن تشبع الأنعام من المراعي وتختزن
الطاقة التي تعينها على الرحلة حتى تصل إلى الأسواق بدينة وفي حالة جيدة.
ويتبين لنا من الإحصائيات التي يوردها المسلم وكذلك عبدالرحمن السويداء في
كتابه عن عقيلات الجبل أهمية الانتاج الرعوي بالنسبة لاقتصاد الجزيرة العربية
حيث أنه الوحيد القادر على توفير الفائض للتصدير بينما الإنتاج الزراعي لا يكفي
حاجة السكان مما يضطرهم إلى الاستيراد من الخارج.
هنا
لا بد من طرح بعض الهواجس.
لماذا، بالرغم من التشابه بينهما، لم تنجب نجد مثلما أنجبت بلاد اليونان فلاسفة
ومفكرين يبحثون في نشأة الكون والدولة والمجتمع؟ لماذا شع نور العقل والعلم من
بلاد اليونان ليضيء الدنيا والعالم كله بينما نجْدُ تئد العقول والبنات ويرى
أهلها في العلمانية جرما يحاكم عليه الإنسان؟ شمس المعرفة عندنا دائما عليها
غيوم، غيوم تحجب النور ولا تمطر الغيث. أعلم أن الحتمية الجغرافية لم تعد في
عصرنا هذا من النظريات المقبولة في تفسير ظواهر المجتمع، إلا أنني لا أملك إلا
أن أتعجب من هذا التلازم بين ما نعاني منه من تقلبات حادة في مناخنا الصحراوي
وبين ما تتميز به الشخصية النجدية من حدة المزاج والتطرف في المواقف والأفكار.
تُرى هل نشّف المناخ الصحراوي أرياقنا وطباعنا مثلما لطفت مياه بحر أيجه طباعهم
وعدلت أمزجتهم؟ ربما أن العنب الذي تنتج اليونان أنواعا منه عديدة وبكميات
كبيرة منشط للذهن أكثر من الرطب، خصوصا بعد معالجته بالطرق التي يعالجونه بها.
ثم
ماذا عن ذلك الدور الهام الذي لعبه التجار قديما في شؤون نجد والجزيرة العربية،
أين هو الآن؟ أين هم التجار؟ لماذا لا نلحظ لهم أثرا ملموسا في البنية
الاقتصادية والسياسية وفي قضايا المجتمع وشؤون الفكر والثقافة؟ هل مرد ذلك إلى
انصراف مجتمعنا كلية وبكل فئاته إلى الأمور الأخروية والغيبيات وعدم اكتراثنا
ولامبالاتنا بالأمور الدنيوية وشؤون الحياة على هذه الأرض؟
|