جدتي مزنه
سعد الصويان
أراهنكن لو أن السيارات كانت موجودة على أيام جدتي لما ترددت هي وبنات جنسها في
قيادة السيارة ولكان ذلك بالنسبة لهن أمرا طبيعيا جدا وغير مستنكر ولا مستهجن.
كانت جدتي بتلقائيتها وفطرتها السليمة تقترف الكثير من السلوكيات البريئة التي
أصبحت الآن من التابوهات المحرمة التي لا يُسمح بها. لم يكن لديها أي "فوبيا"
أو حرج من التحدث إلى الرجال إذا اقتضت الحاجة ذلك، بل إن ثقتها بنفسها تصل إلى
حد الجلوس معهم والعمل معهم في الحقل أيام حصاد الحنطة مثلا أو صرام النخل أو
درس الزرع وذرايته. وإذا جاء ضيوف إلى بيتنا ولم يكن أحد من الرجال موجودا قدمت
للضيوف بنفسها كل ما يحتاجون إليه من القهوة والشراب والطعام. كانت تذهب إلى
السوق حيث تختلط دكاكين الرجال مع دكاكين النساء لتشتري حاجتها حيثما وجدتها،
وربما دخلت مع أصحاب الدكاكين في مشادات حول السعر، وإن كان من أصحاب الدكاكين
الذين تعرفهم وتتعامل معهم باستمرار لا تتردد في الجلوس على عتبة دكانه لأخذ
قسط من الراحة وتقليب بضاعته ومجاذبته أطراف الحديث حول شتى المواضيع.
دعوني أقدم لكم جدتي مزنه الله يقدّس روحَه ويسكنها الجنه. أمية لا تقرأ ولا
تكتب، وربما لحسن حظها، خصوصا إذا تحول التعليم إلى غسيل دماغ وحشو المخ بما لا
يفيد وحرفه عن الفطرة السليمة. بالرغم من أميتها كانت أكثر انفتاحا وتسامحا
وعفوية من حفيداتها. كانت عفيفة بلا زيف، مؤمنة بلا رياء، تقية بلا ادعاء. لو
قابلها محتسب في الشارع وطلب منها أن تلبس قفّازات على كفيها أو أن ترفع
العباءة من على كتفها وتضعها على رأسها لما فهمت مقصده ولا دوافعه، ولو فهمت
لانتهرته قائلة: عسى الله يخلّي لي رجالي، ما انتب وكيلٍ عليّ، رح الله يستر
علينا وعليك. إيّاك أن تُخاطِبَها أو توحي لها بما يشعرها بأنك تشك في دينها أو
شرفها، فهذا خط أحمر لن تسمح لك بتجاوزه، أو حتى الاقتراب منه. ولا تزال
البدويات والريفيات في المناطق النائية من هذه البلاد حيث لا يزال الناس يعيشون
بقايا مرحلة ما قبل الزفت والزيت يفكرون ويتصرفون بنفس الطريقة. لا يزال بيننا
من هم على تمسكهم بحياة الفطرة البريئة، بعيدا عن الشعارات والمزايدات والرياء،
إنهم الأغلبية الصامتة التي لا يصلنا صوتها.
منذ
قبل حوالي عشرين سنة فاتت كنت أذهب إلى منطقة حائل والقرى ونجوع البادية
المحيطة بها لجمع الروايات الشفهية من المخبرين وكبار السن عن التاريخ القبلي
والقصص والأشعار والثقافة التقليدية عموما. أذكر أنني حينما أكون في الرياض
وأريد أن أكلم أحد أصدقائي من الإخباريين هناك على الهاتف ويكون هو غير موجود
ترد أحد النسوة على التلفون وكانت المحادثة عادة ما تجري على هذا المنوال: من
انت يانظر عيني؟ والله راع البيت ما هو موجود يابعد حيي وميتي، توصّي على شي،
تبين اقول له شي لا عدِمتك؟ . بالله عليك إن كنت إنسانا متحضرا حقا من التي
تحترمها أكثر، تلك الأمية التي ترد عليك بهذا التهذيب أم التي تنبح في السماعة:
ما ادري، ما هوب بُه. ثم تسكّر السماعه دون أن تعطيك فرصة لترك رسالة، كما لو
أنك ستخرج من السماعة وتعض أذنها. واسمحوا لي أن أغتنم هذه الفرصة لأقدم تحية
إعجاب لأهل الشمال عموما، رجالهم ونسائهم، بدوهم وحضرهم، لما يتمتعون به من كرم
أخلاق وسعة بال وسلوكيات حضارية. أذكر أنني كنت مع جمع غفير من الرجال في
"دكّة" أحد وجهاء مدينة جبّه ورجالها الطيبين وكان من ضمن الجالسين شخص غريب
جاءهم من منطقة أخرى وكان يلوم صاحب المجلس على استضافته ليلة البارحة رجلا
نصرانيا "كافرا" مر بهم في طريقه من الجوف إلى حائل. فكان جواب صاحب المجلس:
يابو فلان الله يهديك ويمتّع بايامك الضيف ضيف الله من المكرمات، ومن حبّه الله
كثروا ضيفانُه، وحنا ما هيب عادتنا بارك الله فيك نرد الضيف والا ننشده وشّوا
دينُه والا من ايّات عرب. ياسلام! تمعّن في إجابة هذا الأعرابي كم هي إجابة
متحضّرة.
كم
أتمنّى لو أن جدتي لا تزال على قيد الحياة. أولا لأنني أحبها جدا، وثانيا لتحضر
الاجتماع الذي عقدته السيدة كارين هيوز، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون
الدبلوماسية العامة، مع الطالبات الخمسمائة من كلية دار الحكمة الخاصة. أنا
متأكد أن جدتي الأمية ستكون أكثر حكمة وحنكة وصراحة وشفافية وتهذيبا في التحاور
مع هيوز من طالبات دار "الحكمة" "المتعلمات". أليس من عدم الكياسة وعدم اللياقة
أن تنهض أحد الطالبات متحدية هيوز لتقول لها: أنا لا أحتاج لسياقة السيارة لأن
لديّ سوّاق. زين، مبروك عليك السواق ياأبّهه، يابنت الذوات، ولكن ما ذا عن من
ليس لديها الإمكانية لجلب السائق. ما ذا عن من تريد أن تتشبث بممارسة إرادتها
الذاتية وحريتها الشخصية! أن لا ترغبين في قيادة السيارة لأن لديك سائق فهذا
استعلاء مقيت ومنطق أعوج وخلط خطير في المفاهيم والقضايا. أنا أعرف عقلية جدتي،
فهي لا تحب المزايدات. لو كانت ضمن الحضور لالتفتت إلى صاحبة السائق وقالت لها:
هَوّ، خوفي من الله، لا والله ياخيّْتي إلا ودّنا نسوق، الكذب شين.
قرأت في صحفنا المحلية نصف الحقيقة عن وقائع اللقاء الذي لفّ ودار في دار
الحكمة واللقاءات الأخرى، ثم قرأت النصف الآخر والمكمل في الصحف الأجنبية. واضح
أن الحوار الذي كان يفترض أن يقرب المسافات بيننا ربما باعدها لأنه كان أقرب
إلى حوار الطرشان. أتصور السيدة هيوز جالسة مع أصدقائها الأمريكان تروي لهم ما
حدث وهي غارقة في الضحك على تلك الفتاة التي لا تريد أن تقود السيارة لأن لديها
سائق. واضح أن تلك الفتاة لا تعي الأبعاد الكارثية المدمرة التي يمكن أن يلحقها
مثل هذا المنطق بصورتنا أمام العالم المتحضر، هذا إن كنا نطمح إلى تحسين
صورتنا.
نعم
هناك مشكلة في علاقتنا مع أمريكا خصوصا والعالم الغربي عموما، وما من شك في أن
هناك تشويه متعمد لصورة العرب والمسلمين في بعض أجهزة الإعلام الغربي. لكن جزءا
من المسؤولية فيما يخص هذا التشويه يقع على عاتقنا نحن. لماذا لا نستجمع
الشجاعة الأدبية ونعترف بمشاكلنا ونبدأ أول خطوة في مسيرة الألف ميل نحو ترتيب
أوضاعنا وترميم البيت العربي. إن البعض منا فقط من باب العناد لأمريكا يصر على
التمسك بأهداب التخلف حتى لا يقال إننا نسعى نحو الإصلاح كله لسواد، أقصد لزرقة
عيون العم سام. إننا بهذا السلوك الصبياني كالرجل الذي غاضب زوجته فأراد أن
يكايدها ويغيضها فبادر إلى جب أعضائه التناسلية. وإن كانت أمريكا حقيقة تريد أن
تمد لنا يد العون والمساعدة بما يتمشى مع أجندتنا وأهدافنا وتطلعاتنا فلِمَ لا،
فلا يرد الكريم إلا اللئيم. أما أن تفرض علينا قيمها وتملي علينا سياسات تخدم
أهدافها وتصب في مصالحها ومشروعها الإمبراطوري فلا وألف لا. ينبغي أن تكون
لدينا الثقة بأنفسنا وبعقليات رجالنا مما يمكننا من معرفة وتمييز السم من
الدسم. كفانا من عقلية: باب يجيك منه الريح سده واستريح، فأنت إن كنت تخاف أن
تهب عليك ريح سامة من الغرب وتموت إن أنت أشرعت الأبواب فثق أنك ستموت مختنقا
إن أنت أوصدتها. ياخي على الأقل خلي الباب مجافى، نص فتحه، لا يموت الذيب ولا
تفنى الغنم.
الله يرحم جدتي ويرحم راعية الغنم التي ترثي زوجها الذي قتل في أحد مغازيه على
وادي الحرث تقول:
خِـلّي بواد الحرث واطول هجراه // حالوا عليه عْـداه وسط المهاشِ
ياليت خِـلّي يوم قَـرْبت مناياه // انه جضيعٍ عندنا بالفراش
ياليتنا في حزم ساجر دفنّـاه // واقَـلّـبِـه وابرد لهيبٍ بجاشي
لو
اطمع انّـه حي والله لانصاه // ما انساه لين الراس بالشيب غاشي
|