كيف يعمل العقل الإنساني؟
سعد الصويان
الإنسان قادر بفكره عن طريق البحث المنظم والتحليل المنطقي أن يستنبط الباطن من
الظاهر ويصل إلى خفايا المجهول عن طريق المعلوم في كل الأمور، سواء الأمور
الطبيعية، أو قضايا الإنسان والمجتمع. لذا نستطيع مثلا أن نعرف حركة بعض
الأجرام السماوية ونعرف ما في باطن الأرض ونقدر عمرها ونتتبع تطور الحياة ونضع
تصوراً لحياة ما قبل التاريخ عن طريق الشواهد الأثرية الشاخصة والدلائل
الملموسة. وبقدر ما أوتي الإنسان من ذكاء وقدرة على التفكير الحر وبقدر ما
يحاول إعمال فكره وذكائه في البحث الموضوعي والاستكشاف سيكون مقدار المسافة
التي يتجاوزها من الظاهر إلى الباطن، من السطح إلى القرار، من الوعي إلى
اللاوعي، فهناك مستويات من الوعي ودرجات من الإدراك.
الوعي واللاوعي ليسا، كما يحلو للبعض أن يصورهما، وجهين لعملة واحدة نرى أحدهما
ولا نرى الآخر. إنهما طرفان في مسار واحد إذا بدأنا بأحدهما، الوعي، وسرنا فيه
خطوة خطوة وصلنا إلى الطرف الآخر، اللاوعي. ولا بأس من الاعتراف بأنه يصعب أن
نحدد نقطة معينة على هذا المسار ونقول هنا ينتهي الوعي ويبدأ اللاوعي. هناك
منطقة رمادية في الوسط يمتزج فيها الوعي باللاوعي. والوعي الذي أتحدث عنه هو
الإدراك والمعرفة والعلم بالشيء، هو التأمل في أقوال الناس وأعمالهم كمظاهر
تساعدنا على سبر غور العقل البشري وفهم النشاطات الذهنية والتركيبة النفسية
التي تميز الإنسان عن الحيوان ومن ثم اكتشاف القواعد والقوانين التي تحكم
السلوك البشري ومظاهر الطبيعة.
لنأخذ مثالا واحدا على ما نقول، وليكن في حقل الاقتصاد. قبل آدم سميث
Adam Smith (1723-1790)
وكتابه الذي يبحث فيه عن طبيعة وأسباب ثروات الشعوب An
Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations
لم يكن الناس مدركين ولا واعين بالقوانين التي تسير عجلة الاقتصاد، ولذا لم يكن
أحد يفكر في ذلك، بل لم يكن أصلا من الممكن وضع خطط ولا سياسات اقتصادية في
غياب المعرفة العلمية التي تقوم على البحث المنهجي. كان ما يبدو أمام المشاهد
غير المدقق والذي لا يمتلك منهجا علميا للبحث في طبيعة الاقتصاد أن هناك أفرادا
يلهثون في سباق فوضوي محموم لتحصيل الثروة بصورة تبدو أنها أنانية وذاتية
وعشوائية. النظرة السطحية لهذا الواقع أعطت البعض الانطباع بأن هناك تعارضا
صارخا بين ما فيه مصلحة الفرد الذاتية وبين ما فيه صالح المجموع، أي الصالح
العام، وأن مكسب الفرد الشخصي هو خسارة للمجموع، وأنه من مسؤولية الدولة أن
تقنن المصلحة الخاصة للأفراد وتحددها بحيث تتجه لما كانوا يعنقدون أن فيه خدمة
المجتمع. ثم جاء سميث ليؤكد على أن الليبرالية الاقتصادية والتحرر من القيود
والتنظيمات سيكون مفيدا للاقتصاد. بين سميث كيف أن النظام الاقتصادي له القدرة
الذاتية على تسيير نفسه بنفسه دون التدخل من قوى خارجة عنه، وإنه سوف يعمل بشكل
أفضل لو ترك لشأنه. كما بين أن التوفير والتقتير غير مفيد للاقتصاد، بل على
العكس من ذلك فإن بحث كل فرد عن مصلحته الذاتية وزيادة الاستهلاك هو ما ينعش
التجارة ويحفز الاقتصاد. ما يتراءى لنا في السوق وكأنه فوضى وضجيج هو في حقيقته
نشاط منظم تقف وراءه قوة دافعة يسميها آدم سميث "اليد الخفية" تعمل على تنظيمه
وتنسيقه.
ما
ينطبق على النشاطات الاقتصادية ينطبق على غيرها من النشاطات الإنسانية. فلنأخذ
مثالا آخر وليكن اللغة والأدب. لو قمنا بتسجيل عينة
corpus
لغة غير مكتوبة ورصدنا كل مفرداتها وقدراً كبيراً من جملها وتعابيرها ووضعنا
هذه الظواهر الكلامية تحت مجهر البحث فإننا سوف نتوصل إلى اكتشاف القوانين
اللغوية (صوتية وصرفية ونحوية ودلالية) التي تحكم السلوك اللغوي لمن يتكلمون
هذه اللغة. قبل سيبويه لم تكن العرب تعرف قواعد لغتها، وقبل الخليل لم يعرفوا
القوانين التي تحكم أوزان شعرهم. اللغة الدارجة لها قواعد يمكن اكتشافها، الشعر
العامي له أوزان وبحور، الموسيقى الشعبية بإيقاعاتها وأنغامها تحكمها قوانين،
لكن الشعراء العاميين والموسيقيين الشعبيين الذين ورثوا هذه القوانين واختزنوها
في اللاوعي لا يعون منها شيئا. وعدم الوعي بهذه القوانين أو عدم اكتشافها لا
يلغي وجودها. وبقدر ما يكون السلوك مركبا ومعقدا بقدر ما يصعب استنباط القوانين
التي تسيره، استنباط هذه القوانين مهمة تقع على عاتق العلماء والمختصين في
العلوم الإنسانية والإجتماعية. عالم الفلكلور هو الذي يبحث في أسلوب وبنية
الخرافات والأساطير والأحاجي، وعالم النفس هو الذي يبحث في وظيفتها النفسية،
وعالم الأنثروبولوجيا هو الذي يبحث في وظيفتها الإجتماعية. أما عامة الناس
الذين يبدعون هذه الأجناس الأدبية ويتناقلونها فإنهم غير واعين بهذه الأمور.
ومثلما أن المتكلم يستطيع أن يتكلم دون الوعي بالقوانين اللغوية التي تحكم
كلامه فإن الأديب يستطيع أن يبدع دون أن يكون على علم بالقوانين التي تحكم
إنتاجه، بل إن ارتداء الأزياء وآداب المائدة وطرق التحية، بل حتى الجلوس والمشي
التي تبدو لنا أمورا تلقائية هي مظاهر ثقافية محكومة بقوانين بنيوية، كما يقول
كلود ليفي شتراوس Claude Levi-Strauss.
والناس عموما وفي كل مجال يتصرفون دون الوعي بالقوانين التي تحكم تصرفاتهم.
اكتشاف هذه القوانين من اختصاص العالم والناقد واللغوي. الإبداع موهبة، أما
النقد فهو دراسة وتحصيل.
عملية استبطان النصوص اللغوية أو الأدبية وغيرها من مظاهر الثقافة الأخرى
واستظهار مكونات اللاوعي فيها عملية غاية في الصعوبة والتعقيد تقوم على التحليل
والتمحيص وعلى الرصد الواعي والملاحظة الدقيقة لكل حالات الظاهرة المدروسة وعلى
توظيف خطوات منهجية ومقاييس علمية تضمن موضوعية البحث وسلامة النتائج بحيث لا
تتنافى مع سليقة المبدع أو المتكلم ولا تتعارض مع ما قد يكون لديه من تصورات
حول الأطر والمقاييس التي تحكم إنتاجه. ومن المعروف أن أدوات المحلل أو الناقد
تختلف عن أدوات المبدع - لذا فإنه ليس من العدل ولا من الجائز أن نتوقع من
الشعراء أن يكون لديهم إدراك أولي وعلم مسبق بالقواعد التي تحكم إنتاجهم. هذا
عمل الناقد المتخصص.
البحث في مسائل الوعي والإبداع لا يقتصر على قضايا سر الصنعة وأنماط الشكل
والبنية بل يدخل في ذلك أىضا القضايا العاطفية: كثيرا ما يكبت الإنسان العواطف
والانفعالات النفسية ويقصيها إلى أقصى قاع العقل الباطن، لكنها على الرغم من
ذلك تظل مؤثرة في شخصيته توجه سلوكه وتحكم علاقته مع الآخرين، وقد تطفو إلى
السطح من حين لآخر على شكل أحلام مزعجة أو تصرفات غريبة أو إسقاطات. وكلما
استطاع الإنسان أن يجتذب مشاعره المكبوتة من قرار اللاوعي إلى الوعي كلما
استطاع أن يتحكم بها ويتعامل معها بعقل ومنطق، وهذه وظيفة العلاج النفسي. وبحسب
قدرة الإنسان وطريقته في التعامل مع رغبته تكون النتيجة هدامة مدمرة أو بناءة
مبدعة، تبعا لما ينتج عن ذلك من وسائل الإحلال والإبدال والإسقاط. وهنا يأتي
دور الفن والموسيقى والأدب كوسائل للتطهير والتنفيس، ومنهج التحليل النفسي
للأدب منهج يقوم على دراسة وظائف الأدب النفسية وما يتضمنه من رموز ودلالات
عاطفية.
المنهج العلمي في البحث قائم أصلا على أساس أن السلوك الإنساني، أيا كان، تحكمه
قوانين يمكن اكتشافها والتوصل إليها عن طريق البحث والاستقصاء، لكن هذا بطبيعة
الحال لا يعني أن الإنسان على وعي بهذه القوانين وأن كل حركة يقوم بها محاولة
واعية لتطبيق هذه القوانين والتقيد بها. وما ينطبق على السلوك الإنساني ينطبق
على الظواهر الطبيعية في جميع تجلياتها والتي تخضع كلها لما نسميه قوانين
الطبيعة. هذه القناعة بفاعلية المنهج العلمي وقدرات العقل البشري هي التي أعطت
الأمم المتحضرة هذه القدرة الهائلة على تسخير الطبيعة والسيطرة عليها والقدرة
على التعامل مع المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل فعال وناجع.
ولذلك نجد هذه الأمم كيّفت مناهجها التعليمية لغرس المفاهيم العلمية الصحيحة في
أذهان الطلاب وتدريبهم على التفكير السببي وعلى خطوات المنهج العلمي في البحث
والكتابة والتفكير وفي التعامل بواقعية وموضوعية مع ما يواجهونه من مشاكل
الحياة، بعيدا عن الركون إلى الغيبيات والمعجزات التي عادة ما تقود إلى ضبابية
التفكير واختلاط المفاهيم وتشويش الأذهان والاستسلام لمجريات القضاء والقدر.
|