الأمن الثقافي
سعد الصويان
ليس
بمستبعد ولا مستكثر أن نطمح إلى احتلال مقعد متقدم في مسيرة الحضارة البشرية
المعاصرة، حيث أن لنا جذوراً حضارية عريقة لو سقيناها ورعيناها لأينعت وأتت
أكلا تحقق لنا الأمن الثقافي المنشود. تتميز ثقافتنا العربية بخصائص شتى
رافقتها وتطورت معها على مر الدهر وكره وأتاحت لها أن تواصل مسيرتها منذ القدم
حتى الآن وأن تسهم بشكل إيجابي في إغناء تراثنا القومي والإنساني في مختلف
العصور. فنحن حينما نتحدث عن الأمن الثقافي فإننا لا ننطلق من فراغ ولا نبني
قصوراً في الهواء. فقد نشأت الثقافة العربية قبل آلاف السنين وامتدت متنامية
عبر الزمان والمكان معبرة عن ذاتها، وكانت على الدوام ذات سمات إنسانية عالمية
تحفل بقيم فكرية وأخلاقية ما انفكت تضعها في أوليات مبادئها واهتماماتها، منها
قيم الحق والعدل والمساواة والكرامة واحترام الإنسان وواجب المعرفة والتفكير في
هذا الكون والخلق. ولهذه الثقافة تطلعاتها الروحية العظيمة، ففيها ظهر تراث
الأنبياء والرسل إلى أن جاء الإسلام بوحدانيته وأصبح بعداً أساسياً من أبعادها
ومنحها طابعها الذي ما زالت تتسم به بين الثقافات. كما أن القرآن الكريم نزل
بلسان عربي مبين فأصبحت الثقافة العربية من ذلك الحين ثقافة عالمية تميزت
بقدرتها على استيعاب الثقافات الأخرى من فارسية ورمانية وإغريقية دون أن تفقد
شخصيتها وخصوصيتها.
وإذا ما تكلمنا عن الثقافة على المستوى الشعبي، بدلاً من المستوى القومي
والرسمي، فإن ثقافتنا الشعبية تشكل جانبا مضيئا من جوانب شخصيتنا ورافدا مهما
من روافد ثقافتنا القومية يمكن أن تسخر كوامنه الغنية لفتح آفاق جديدة من
الاستلهام والعطاء أمام المبدعين والفنانين والمفكرين. هذه ثروات ينبغي
استنباطها وتوجيهها لخدمة قضايانا القومية والثقافية. وتقع على عواتقنا مسؤولية
صونها وحفظها من عبث العابثين واستغلال المستغلين وإبرازها على حقيقتها الأصيلة
المشرفة وعلى صورتها الناصعة المشرقة. هذا واجب وطني ينبغي أن لا نفرط فيه ولا
نتركه للصدف أو لاجتهادات الأفراد التي يعوزها التخطيط والتنظيم.
إن
ما نعاني منه اليوم هو أن التراث يمتلكنا بدلاً من أن نمتلكه. ضعف الحاضر مع
تألق الماضي يجعل له الغلبة دوماً، وغالباً ما نتخذه ملجأ نهرب إليه من الحاضر.
ورغم معرفتنا بأن التراث إنما كان من صنع بشر مثلنا إلا أننا نقف منه موقف
الرهبة والاحترام الزائد. لقد آن لنا أن نتمثل العصر الذي نعيشه ونستوعبه وأن
نزاوج بين الأصالة والمعاصرة ونحث الخطى للحاق بالحضارة الحديثة وللتخلص من
الفجوة العلمية والفجوة التقنية وفجوة نظم المعلومات التي تفصل بيننا وبين
العالم المتحضر.
يلزمنا إعداد وتنفيذ خطط ثقافية وسياسات وطنية طويلة المدى ترسم برامج مدروسة
ومعالم واضحة لمستقبل ثقافي يدفعنا إلى اللحاق بركب الحضارة المعاصرة بما يتمشى
مع واقعنا وطموحاتنا. والتخطيط أصلاً عملية تقوم بها الدولة وتنفذها لأنها
الجهة الوحيدة القادرة على التنظيم وعلى تدبير الأموال وعلى الإلزام النظامي
الضروري. وهي الجهة التي تستطيع حماية الثقافة من الاستغلال التجاري ومن الغزو
الدخيل، كما تستطيع وضع إمكاناتها الواسعة لخدمة الثقافة في جانبيها الإبداعي
والجماهيري، ويمكننا أن نحدد دور الدولة في ما تصدره من تنظيمات وقائية
وتشجيعية غايتها الدفاع عن عناصر وخصوصيات هويتنا الثقافية وذلك بما يتمشى مع
روح العصر الحديث، وتنشيط الحركة الثقافية بجميع مظاهرها وإزالة العوائق عن وجه
التدفق الثقافي وتسهيل عمليات النشر والتوزيع في الداخل والخارج وحث الجهات
المعنية على وضع مشاريع وخطط ثقافية هادفة تتمشى مع إمكاناتها واختصاصاتها.
الثقافة في حقيقتها وفي معناها الشامل أشبه ما تكون بالصرح الشامخ الذي يحتاج
إلى صيانة وتشغيل، أو قل هي كائن حيوي معقد يتألف من أجزاء وأوصال يختلف
تكوينها باختلاف وظائفها لكنها في نهاية الأمر تتلقى توجيهاتها من مركز عصبي
واحد. وقياساً على ذلك فإن فعالية الثقافة تبقى محدودة وحيويتها مفقودة إذا كان
الجهاز الثقافي عبارة عن أشلاء مقطعة وأوصال متناثرة لا ينتظمها مركز واحد ولا
توجهها رؤية واضحة. وقد قامت الدولة بإنشاء الهيئة الوطنية لحماية الحياة
الفطرية والبيئة بما فيها من نبات وحيوان وطيور. وهذه خطوة رائدة في الحفاظ على
جزء مهم من ثقافتنا. ألا يجمل بنا وقد بلغنا هذه المرحلة من النضج والوعى أن
ننشىء هيئة وطنية مماثلة تعنى بالإنسان تراثاً وفكراً وحضارة حماية له من
التخاذل أمام تحديات هذا العصر؟! يمكن لهذه الهيئة أن تكون المركز العصبي
لثقافة هذا البلد الذي يرسم طريق الثقافة ويخطط لها ويرعاها ويوجهها بما يتمشى
مع طموحاتنا وآمالنا. ومما يعزز أهمية تأسيس مثل هذه الهيئة هو ما نعانيه من
حاجة ملموسة إلى دفع وتقنين النشاطات الثقافية المعاصرة بما فيها حركة البحث
والتأليف والترجمة والنشر والإنتاج المسرحي والسينمائي، وخصوصاً منها المستوحى
من عناصر ثقافتنا المحلية المتميزة، وكذلك تنظيم الندوات والمهرجانات داخل
المملكة وخارجها في مختلف قطاعات الثقافة والفنون التشكيلية والحركية
والموسيقية. هناك مهام جسيمة يمكن أن تناط بهذه الهيئة منها وضع معالم على
الطريق لمستقبل ثقافي يدفعنا إلى اللحاق بركب الحضارة المعاصرة ولم شتات مختلف
الأنشطة الثقافية المبعثرة وإصدار تنظيمات تتمشى وروح العصر.
ولعل من دواعي إنشاء مثل هذه الهيئة هو ما نشاهده يومياً من تلاشي معالم
ثقافتنا التقليدية وتراث الاجداد إما عن طريق الجرافات والآلات المجنزرة التي
تكتسح كل ما يعترض طريقها من المباني والآثار الشاخصة أو عن طريق الغزو
التكنولوجي الذي أحل المخترعات الحديثة محل الصناعات والحرف التقليدية أو عن
طريق انتقال حملة هذه المأثورات إلى الرفيق الأعلى بما يختزنونه في صدورهم من
كنوز. ونحن في هذا المجال في سباق مع الزمن وكل يوم يمضي دون أن نعمل شيئاً
يعني فقدان الشيء الكثير. والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
إذا
ما قامت الأمة واقفة تضع أقدامها على أرض ثقافية صلبة متماسكة انجلت عنها كربة
الاغتراب وتحول شعورها باليأس والإحباط إلى شعور بالزهو والاعتزاز وأصبح
تعاملها مع الحضارات الأخرى تعامل الند للند دون الإحساس بالنقص والدونية.
وفيما لو استطعنا أن نصل إلى هذا المستوى الثقافي الرفيع، هذا الأمن الثقافي،
فإننا سوف نقف على قدم المساواة مع الأمم المتحضرة نتأثر بها وتتأثر بنا على حد
سواء وتربطنا بها علاقات الأخذ والعطاء المتبادل ونكسر طوق الحصار التكنولوجي
والهيمنة الثقافية المطلقة والتبعية الفكرية التامة. وبذلك نضيف بعداً آخر
لإنجازاتنا المادية يخولنا لأخذ مكاننا المناسب في الصفوف الأولى من بين الأمم
المتقدمة وننتزع احترام المجموعة الدولية فنضفي لعزتنا عزة ولهيبتنا هيبة.
|