همزية حميدان الشويعر
في إحدى زياراتي المتكررة للأخ العزيز إبراهيم
العبدالله اليوسف كنا نبحث في كراساته فعثرنا على
نسخة خطية لقصيدة همزية منسوبة إلى حميدان الشويعر
يمدح فيها ابن نحيط راعي الحصون ويشكو له قلة ذات
اليد ويطلب منه العون المادي. واستنسخت القصيدة من
الأخ إبراهيم إلا أني بعد قراءتها قراءة متمعنة
لفت انتباهي أنها تختلف بعض الشيء عن شعر حميدان
وبدأ الشك يساورني في نسبتها إليه. ومضت الأيام
دون أن تسنح الفرصة لإثارة الموضوع مع الأخ
إبراهيم أو غيره من الرواة الموثوقين. فلما أنيطت
بي مهمة الإشراف على صفحة "مأثورات شعبية" بجريدة
الرياض الأسبوعي نشرت القصيدة المذكورة في العدد
5417 الصادر يوم الجمعة الموافق 2 رجب 1403هـ. وقد
تعمدت نشرها دون أن أبدي أي تحفظات حيال نسبتها
إلى حميدان ومن لديهم معلومات أكيدة عن هذه
القصيدة وقائلها لعل النقاش الذي قد ينتج عن ذلك
يجلو الأمر وينير السبيل.
وفي العدد الصادر يوم الجمعة الموافق 7 رمضان نشرت
الجزيرة في صفحة التراث الشعبي تعقيباً للأخ محمد
بن عبدالله الحمدان (والذي يقوم بجمع شعر حميدان
لنشره) شكك فيه أن تكون القصيدة من نظم حميدان
الشويعر وأورد في ذلك ثلاث حجج هي:
1- أنه سمع هذا الرأي من بعض المهتمين بالشعر
الشعبي ومن حافظي شعر حميدان من جماعته ومن غيرهم.
2- أن هنالك قصيدة همزية لأبي حمزة العامري وأخرى
لحمد الغيهبان المري.
3- هجاء حميدان المقذع لابن نحيط في قصيدة القرى
المنسوبة له.
وفي عدد الجزيرة الصادر يوم الخميس الموافق 13
رمضان في الصفحة السابعة رد الأستاذ أبو عبد
الرحمن بن عقيل على محمد الحمدان مؤكداً نسبة
القصيدة إلى حميدان وأشار إلى أن منديل الفهيد
نشرها في الجزء الثالث من سلسلة "من آدابنا
الشعبية في الجزيرة العربية".
كما أوضح أن منديل نشر في نفس الكتاب قصيدة
الغيهبان التي نشرها من قبل فهد ابن فردوس
وأن قصيدة أبي عامر نشرها ابن دخيل في كتابه عن
أعراب نجد.
وفي عدد الجزيرة الصادر يوم الجمعة الموافق 14
رمضان رد إبراهيم اليوسف أيضاً مؤكداً نسبة
القصيدة إلى حميدان وقال موضحاً إسنادها:
"وصلتني أصلاً من الراوية محمد بن عبد الرحمن بن
يحيى وابن يحيى ذكر لي أنه أخذها هي ومجموعة أوراق
بما فيهن القصيدة الهمزية من صالح بن نصر الله
وصالح عثر عليها مع أوراق جده الشيخ محمد بن
نصرالله المتوفي عام 1172هـ تقريباً لأنه عاصر
حميدان رحمة الله على الجميع. كذلك ذكر لي محمد بن
يحيى أنه عرض الأوراق وطبقها على رواية شاعر سدير
الشهير إبراهيم بن جعيثن وأخذ منه مجموعة قصائد
أيضاً لحميدان، وقد اطلعت على بعض منها لم يطبع"
أ.هـ.
وأشار إبراهيم اليوسف في رده إلى نشر الهمزيات
الثلاث في كتاب منديل الذي سبقت الإشارة إليه
ثم أوردها كاملة.
مما سبق نستخلص أن محمد بن عبد الرحمن اليحيى
ومنديل الفهيد وإبراهيم اليوسف وابن عقيل مجمعون
على أن هنالك ثلاث قصائد همزية، واحدة منها لأبي
حمزة العامري والأخرى لحمد الغيهبان المري
والثالثة لحميدان الشويعر. وفي ذلك ما ينقض
الحجتين الأولى والثانية اللتين أوردهما محمد
الحمدان، أما الحجة الثالثة فقد نقضها بنفسه حيث
يقول معقباً "وإن كان هذا يرد بأن الشعراء يهجون
ويمدحون". والأمثلة على ذلك في الشعر النبطي
والفصيح أكثر من أن تحصى كقصة المتنبي مع كافور
الأخشيدي وكذلك ما ذكره أبو عبيدالله محمد بن
عمران المرزباني في كتابه الموشح في مآخذ العلماء
على الشعراء من أن مكنف أبا سلمى من ولد زهير بن
أبي سلمى هجا ذفافة العبسي بأبيات منها:
إن الضراط به تعاظم جدكم
فتعاظموا ضرطا بني القعقاع
فلما مات ذفافة رثاه مكنف بأبيات منها:
أبعد أبي العباس يستعتب الدهر
وما بعده للدهر عتبى ولا عذر
ألا أيها الناعي ذفافة ذا الندى
تعست وشلت من أناملك العشر
إذا ما أبو العباس خلى مكانه
فلا حملت أنثى ولا مسها طهر
ولا مطرت أرضا سماء، ولا جرت
نجوم، ولا لذت لشاربها الخمر
كأن بني القعقاع يوم وفاته
نجوم سماء خر من بينها البدر
توفيت الآمال بعد وفاته
فأصبح في شغل عن السفر السفر
يعزون عن ثاو تعزى به العلا
ويبكي عليه البأس والمجد والشعر
وما كان إلا مال من قل ماله
وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر
ولو رجعنا إلى شعر حميدان لوجدناه كغيره من
الشعراء يهجو ثم يعود فيمدح أو العكس. من ذلك قصته
المشهورة مع ابن معمر صاحب العيينة حينما أجبر
حميدان على المغزى فهجاه بقصيدة مطلعها:
أسباب ما فاج الضمير وذار
كرى العين ودموع النظير نْثار
ومنها:
وطاني رِدِيّ الخال غَزّان صخره
وانا عيلتي لي فاقةٍ وصغار
ومنها:
محا الله من يزرع على غير عيلم
ومن كان يبني بالهيار جدار
مدحته بجهلٍ قبل عرفي فيا أسف
على مدح مزغولٍ بغير شْعار
فياليت عرفي قبل مدحي بمن هفت
عمومه وخاله حرفته بيطار
أجل عنك مدحي ضاع في غير خيّر
كما ضاع في جيب العجوز عطار
ترى الاصل جَذّابٍ على الطيب والردا فلا شك نقّ
الحب يالبذار
وفي ذلك ما يدل على أنه مدح ابن معمر قبل هذه
القصيدة الهجائية. ومن هجائه في ابن معمر قوله
موجهاً الكلام لمحمد بن ماضي أمير روضة سدير.
تروح تصافي بومةٍ في خرابه
جنح الدجى ما تهتني بهجوع
يبي منك حِرّاسٍ الى بات خايف
شروى ضريعٍ ما تسد الجوع
ثم عاد فاعتذر منه في قصيدته المشهورة التي منها.
رفيع الثنا عبدالله بن معمر
اله الملا عن صاحب العين حارسه
هزبر التلاقي واحش الطرف والحمى
راعي جفانٍ تجري القاع دانسه
الى قنّعت شيخانها في حصونها
فهو فيه هِمّاتٍ تواما عرامسه
وضيف العشا يلقى العشا حول بيته
ونسر الضحى يلقى الغدا في مداوسه
خذ العدل من كسرى ومن حاتم السخا
ومن أحنفٍ حلمه ومن عمر هاجسه
وهو مثل شط النيل ما هوب نقعه
الى بال فيها واحدٍ قيل ناجسه
أما قصة حميدان مع عثمان بن نحيط أمير قرية الحصون
من قرى سدير فقد هجاه فعلاً في بيت واحد من قصيدته
التي مطلعها:
ظهرت من الحزم اللي به
سيد السادات من العشره
حيث يقول:
وابن نحيط راع الحصون
الداشر رضّاع البقره
إلا أنه مدحه بعد ذلك في أكثر من مناسبة. ففي
القصيدة التي يعتذر فيها من ابن معمر يقول موجها
الكلام إلى عثمان بن نحيط:
فقلت لعثمان الكريم ابن مانع
وكل فتىً يأوى الى من يوانسه
وهو مارثٍ للجود والدين والهدى
بعيدٍ عن افعال الردى أو مدانسه
رموقٍ لعين الراي ما هو مغفل
بصير في كل المعاني مسايسه
وكان حميدان كثيراً ما يهدي النصح والمشورة إلى
ابن نحيط كما في قوله من قصيدة طويلة:
ياابن نحيط افهم جواب مهذّب
جا من صديقٍ واضحٍ عنوانها
من عادى اباك القدام وقال لك
باصلح انا وايّاك من صدقانها
تراه عابٍ لك قليبٍ مهلك
حذراك لا يرميك في كيحانها
عدوّ جدّك من قديمٍ دارس
مِتْجَرّعٍ بغضاك طول ازمانها
لو ناش دق الصيد منك حبايله
ما ذارها مستاردٍ لسمانها
ويتضح من هذه القصيدة أن حميدان يحذر ابن نحيط من
أحد الأقران إلا أننا لا نعلم من المقصود بذلك
لأنه لم يصرح باسمه. غير أن حميدان يقول في قصيدة
أخرى:
ياضبيب الصفا ما تجي الا قِفا
ما تجي الا مع النخش والنخجره
مثل راعي جلاجل مع ابن نحيط
ادركه من زمانٍ وهو يسحره
يسحره مثل ضَبٍّ هوى صِلِّتِه
والملا لو تجي الجحر ما تقدره
قال ياضب هذا جرادٍ ضفى
والسبايا ثقالٍ تبي جَرْجِره
فاظهره للفضا من كنين الذرا
ثم جوّد عنه ساكف المجحره
ثم قال احملوا ياعياله عليه
واحدٍ بَلَّمِه وآخرٍ عَقَّرِه
ما يرد الحذر عن سهوم القدر
والشويعر حميدان ياما انذره
لذلك يبدو أن حميدان في القصيدة الأولى يحذر ابن
نحيط من راعي جلاجل المذكور في القصيدة الثانية
لأن الشطر الثاني من البيت الأخير يؤكد على أن
حميدان كان قد أنذر ابن نحيط وحذره من راعي جلاجل
مرات عديدة. وراعي جلاجل هو ابن عامر من الدواسر
احتال على ابن نحيط وأغرى به ولديه مانع وسعود
الذين انصاعا لخدعة ابن عامر وقتلا أباهما كما ذكر
حميدان في الأبيات السابقة وذلك عام 1111هـ وهذا
مما يوضح علاقة حميدان بابن نحيط كما يوضح أيضاً
الدور السياسي الذي لعبه شعر حميدان في ذلك الوقت.
وهكذا نرى أن حميدان وإن كان قد هجا ابن نحيط في
بيت واحد إلا أنه مدحه في أكثر من مناسبة - ليس
فقط في الهمزية. والآن نأتي إلى تحليل أسلوب
الهمزية والمعاني التي تتألف منها لنرى هل هي
منسجمة مع شعر حميدان أم لا، تبدأ القصيدة بذم
الشيب والتحسر على عصر الصبا.
بان المشيب ولاح في عرضائي
ونعيت من بعد المشيب صبائيوهذا من المواضيع
المحببة عند حميدان فكثيراً ما افتتح قصائده بذكر
الشيب كقوله:
قال عودٍ حداه الكبر والمشيب
وانحنى تقل قوسٍ يتالي عصاه
طاح قدره وحاله ولا به مزيد
وان ومر من عياله صغيرٍ عصاه
يوم عنده حلالٍ وقوله يطاع
يركض الكل منهم بزاده وماه
الرجل كل ما قل ماله يعاف
وان عمى بالكبر عمس رايه وباه
وقوله في قصيدة أخرى:
قال عودٍ زلف له سنين مضت
زَلّ عصر الصبى والمشيب حْضِرِه
حاضره بالمجالس يتالي العصا
زهد فيه الولد والوغد والمره
من بقا معه مالٍ فهو غاليٍ
يكنسون الحصا بالعصا عن ثِرِه
وان بقا ما معه شٍ فهو خايبٍ
قيل عودٍ كبيرٍ وفيه الشره
أي أن الكبر بالنسبة لحميدان يعني العجز والحاجة
وقلة ذات اليد وتنكر الزوجة والأولاد. وقد لخص ذلك
في قصيدة له يقول فيها:
بالعون منيفٍ قاله لي
يقول غلاك يوم انت صبي
ترى الشايب عند عياله
وام عياله مثل العزبي
لو يطلبهم رَدَّة لِقْمِه
قالوا مخلي وش ذا الصلبي
كلوا فيده وعادوه
عقب التمسّك بالسبِبِ
احفظ مالك تجي غالي
حتى يلاقونك بالعتب
كَذّبت منيفٍ في قوله
وتبيّن لي ما كان غبي
أحدٍ يقال له لبيه
واحدٍ يقال
له وش تبي
حتى ام عيالي زهدت بي
نسيت زماني وطربي
فْقِدَت منّي شٍ ما اطريه
على بهمي وعلى ركبي
لو هو يشرى كان اشريه
وارخص به مالي وذهبي
ولو تدبرنا افتتاحية الهمزية لوجدناها تدور حول
هذه المعاني:
بان المشيب ولاح في عرضائي
ونعيت من بعد المشيب صبائي
نعيت خِلًّ كان في ماضٍ مضى
لاحت عليه بوارح الجوزاء
ومرةٍ جهالتها علي كبيره
تحسبني اخرج من نقا الدهناء
تقول حِطّ وقِطّ والا فارق
مالي بشوف الشيبة الشمطاء
قلت أيها الشوق الذي من قبل ذا
ما هوب شَرْهٍ يوم عصر صبائي
واليوم خالفت الطبوع وكثرني
منك الكلام وزادت البغضاء
ان كان تبغي قَطّ هِمّات الصبا
تراي عنها قد طويت رْشائي
ثم يخرج حميدان من هذا الموضوع إلى موضوع آخر، أو
مصدر آخر من مصادر شقائه وتعاسته، لأن مقدمة
القصيدة بمثابة عرض حال يقصد منه استدرار شفقة
الممدوح وعطفه.
العام انا لي كِدّةٍ ماشومه
هبّت عليها الجانح اليمناء
اسلفت به يومين ثمًّ جذّت
عنها العصير الى انها بيضاء
وادلجت راسي مرّتين توجّد
وصفّقت بالوسطى على الطرفاء
فهو يقول في هذه الأبيات أن له "كدة" أي فلاحة أو
مزرعة وأنه خسرها، فهل كان حميدان فلاحاً؟ إذا ثبت
أنه فلاح فهذه قرينة أخرى ترجح أن القصيدة له
فعلاً. لو ألقينا نظرة عابرة على شعر حميدان
لوجدنا فيه ذكراً للفلاحة والنخيل كقوله من قصيدة
له قالها بعد ما هجر بلدته القصب:
الا يانْخَلاتٍ لي على جال عيلم
حدايق غلبٍ شوفهن يروع
اخذت بهن عامين حْيالٍ زوافر
من القيظ ما خلّن فيّ ضْلوع
الا يانخلات الصدر جِضّن بالبكا
وهِلّن ياحِدْب الجريد دموع
حلفت ياصافى الما فلا يشربنّه
مني ولا يسقي لهن جذوع
غلاكن عندي قبل هذا وانكرن
عليكن الليالي والزمان يضوع
الى قرّبن من غيظ الاصحاب عفتهن
لو هن على شط الفرات شْروع
انا بالسما وعدي ورزقي ومطلبي
ما هوب في صبخا مراغة جوع
تِقَلّلَت عن دارٍ وراي ومنزل
وقبّلتها حثو التراب كْسوع
الا ياعاير القصب الجنوبي ليتني
اشوفك من حدر السراب لموع
وقوله من قصيدة أخرى:
ترى الخير في راسيات الجذوع
الى دلبحن السنين الحطايم
خنينٍ ظليله ويطرب مقيله
وسمعك تمتّع بصوت الحمايم
تْوَفِّر حلالك وتفرح عيالك
ويكثر نوالك بيوم الصرايم
وقوله من قصيدة أخرى يهزأ من ابنه مانع:
أنا سهرٍ بِمْنيحيتي
وهو مِجْلَنْطٍ بسطوحه
أنا آكل من شين ثْماره
وهو له زينه وبلوحه
نعود الآن إلى الهمزية. نعم أتفق مع الأخ محمد
الحمدان أن أسلوب القصيدة لا يخلو من الغرابة
ومعانيها فيها شيء من الغموض إلا أنها مع ذلك تظل
قصيدة متماسكة محكمة النسج متينة الحبك. يخلص فيها
الشاعر من موضوع إلى آخر ببراعة متناهية لا تتأتى
إلا لشاعر قدير ملك زمام القول ولديه القدرة على
تصريف الكلام كالشاعر المبدع حميدان الشويعر.
وحينما أتحدث هنا عن تلاحم القصيدة فلست أقصد ما
يسميه نقاد الشعر "حسن التخلص"، بل الذي أعنيه
شيئاً أسمى من ذلك. الذي أعنيه هو الوحدة العضوية
والتكامل الفني بين أجزاء القصيدة بجميع أبياتها
ومعانيها بحيث يؤدي كل جزء منها وظيفة فنية خاصة
تساعد على دفع حركة القصيدة وتساهم في عمقها
وثرائها كعمل فني متكامل.
فكما ذكرت، يفتتح حميدان قصيدته بذم الشيب والتحسر
على عصر الصبا الذي ولى إلى غير رجعة. ثم يستطرد
إلى ذكر ما يلازم كبر السن من ضيق الحيلة وقلة ذات
اليد وما يترتب على ذلك من نشوز الزوج وعقوق
الولد، وكما لو كانت هذه المصائب لا تكفي في حد
ذاتها يمضي حميدان يستعرض الطامة الكبرى وقاصمة
الظهر، تلك الخسارة المادية التي مني بها في ماله
وفلاحته. وقصده من ذلك كله هو تجسيد ألم المعاناة
وعمق الجرح ومرارة المأساة لعل في ذلك ما يثير
شفقة الممدوح ويستدر عطفه.
ثم هو بعد ذلك يقوم بحركة شعرية رشيقة ويلجأ إلى
حيلة فنية لطيفة. فبدلاً من أن يهجم فجأة على
الممدوح يطريه ويستجد به نجده يعمد إلى تغليف طلبه
فيقدمه كعروس حسناء تزف إلى عريس كفء.
وركّبت من عال النشيد بكاعب
غَرّا تشادى السابق الخضراء
حيرانة الدملوج خامصة الحشا
ما مسّها خبثٍ ولا سقواء
مصرية الأطراف ناعمة الصبا
قامت بردفٍ كنها عجزاء
هركولةٍ ياما اتلفت من جاهل
حَقّت على ديرانها الأنواء
سكنت قصور الوشم شرقي النقا
ما لاوذت من بارح الجوزاء
يممتها ابن نحيط كَسّاب الثنا
ورث الشيوخ من اول الدنياء
ولد الحديثي والذي من لابه
تَرْثَة تميم وفرعها العلياء
ياابن نحيط الله لي من عيله
خليتهم في الوشم في رجوائي
يرجونني وانا ارتجي من خيّر
والفضل من ندواك في يمنائي
وهذه الحركة الشعرية أو الحيلة الفنية، كما
سميناها، تؤدي أكثر من غرض فني، فالممدوح لا يمكن
أن يرفض هذه العروس الحسناء بل سيقبلها ويدفع لها
مهراً باهظاً يتمثل فيما يمنحه لحميدان من عطايا
وهبات، أما بالنسبة للمتلقي (السامع أو القارىء)
فإن هذا المقطع من القصيدة يمثل محطة استراحة
ولحظة استجمام. فبعد الشقاء والبؤس والتعاسة التي
يثقل بها حميدان عواطف المتلقي ويستنزف مشاعره في
مقدمة القصيدة ينقله في مفاجأة لذيذة سارة إلى هذا
النعيم والجمال المتمثل في هذه الفتاة المترفة
الناعمة الغراء.
وزف القصيدة إلى الممدوح في صورة فتاة حسناء وعروس
جميلة تقليد فني معروف في الشعر العربي ولا يتسع
المجال هنا لإيراد الأمثلة. ولكن الشيء الذي يستحق
البحث ويجدر تتبعه هو متى وكيف انتقل هذا التقليد
الفني من الشعر الفصيح إلى الشعر العامي. فهناك
شعراء نبطيون آخرون غير حميدان ممن عاشوا في عصره
أو قبل ذلك استغلوا هذا التقليد الفني ووظفوه
بكفاءة كقول الشاعر الشعبي في قصيدة له تسمى
القرنفلية يمدح بها بركات الشريف:
خذها إليك عروس شعر ما حبت
لوصال غيرك ياشريف المنزلِ
بكرٍ عن اوباش الملا مصيونه
امست لعرضك يالحسيني تهذل
إلا أن شعراء النبط فيما بعد طوروا هذا العنصر
الفني وجعلوه موضوعاً مستقلاً وطريفاً فيه حوار
وتشخيص وحركة وتمثيل كما فصل القول فيه الشيخ
عبدالله بن خميس.
ونعود إلى السؤال الأول: هل الهمزية لحميدان؟
الجواب: صحيح أن أسلوب القصيدة غريب وقافيتها
وحشية وبعض معانيها غير واضحة إلا أن سند الرواية
وغير ذلك من القرائن والدلائل التي استعرضناها في
هذا الحديث كلها تشير إلى أن قائل القصيدة هو
حميدان. ثم أنه يصعب القول بأن هذه القصيدة تشذ في
أسلوبها وطابعها العام عن شعر حميدان لأن حميدان
شاعر قدير ليس له نمط معين في الشعر فهو يشرق
ويغرب ويصعد وينزل في فنون القول. فمن قصائده
الجزلة كاعتذاره من ابن معمر وقصيدة "الأيام ما
يرجى لهن رجوع" و "الأيام حبلى والأمور عوان" إلى
قصائده الهزلية مثل "أنا من قوم تجرتهم" و "مانع
خيال بالدكه".
وفي الختام، إن لم أكن أفلحت في إقناع القارىء (أو
حتى نفسي) في صحة نسبة الهمزية إلى حميدان فعسى أن
أكون أوفر حظاً في تعريف القارىء الكريم بهذا
الشاعر الفذ في هذه الرحلة العاجلة.