إرهاصات قيام الدولة السعودية
سعد الصويان
يصر زميلي الدكتور خالد الدخيل أن يبقي ملف الدولة السعودية الأولى مفتوحا من
خلال طروحاته المتميزة التي ينشرها تباعا في جريدة الاتحاد الأمارتية. والدكتور
خالد أفنى سنوات من عمره الأكاديمي يقلب هذا الموضوع على بطنه وقفاه حتى أصبح
من أبرز المختصين في هذا المجال. لذا يصعب علي أن أتطفل على مجال اختصاصه وأضيف
رأيا ذا شأن لما قاله ولما توصل إليه من نتائج علمية مدعومة بالشواهد
التاريخية. كل ما أستطيع أن أضيفه هو بعض التفصيلات التي تدعم استنتاجات
الدكتور خالد وتعضدها.
بحكم اهتمامي سوف استنطق شواهد الشعر النبطي في هذا الموضوع مع التركيز على
نتاج ثلاثة شعراء هم رميزان بن غشام وجبر بن سيار، وهما متعاصران، وحميدان
الشويعر الذي جاء بُعيدَهم وكاد يدرك قيام الدولة السعودية ودعوة الشيخ ابن
عبدالوهاب. يشكل هؤلاء الثلاثة مدرسة شعرية متميزة بحكم تركيزهم في أشعارهم على
القضايا الاجتماعية والسياسية في عصرهم، هذا عدا صلة القرابة التي تربطهم حيث
أن جبر هو خال رميزان وهو أيضا يرتبط مع حميدان بانتمائهما إلى بلدة القصب وإلى
قبيلة بني خالد. لو قرأنا أشعار هؤلاء الثلاثة بتمعن لخلصنا إلى أن المنطقة
كانت قد سئمت حالة الشتات والتشرذم السياسي وانعدام الأمن والاستقرار وأصبح
الناس يتطلعون إلى قيام سلطة تحقق العدل وتبسط الأمن والنظام والاستقرار.
يمكننا أن نقرأ مجمل شعر رميزان كما نقرأ مذكرات أي زعيم سياسي يراوح في كتابته
بين سرد الأحداث واستخلاص العبر. رميزان ليس شاعرا محترفا، وإن كان يقول شعر
جميلا، إنه مفكر اجتماعي وسياسي لا يجد أمامه، بصفته يعيش في مجتمع تغلب عليه
الأمية والمشافهة، إلا الشعر وسيلة للتعبير عن قناعاته واستنتاجاته التي توصل
إليها عن طريق التجربة الشخصية والتفاعل مع الآخرين. تدور معظم قصائد رميزان
حول النزاعات التي خاضها ضد خصومه، سواء تلك التي خاضها مع أبناء عمه في تنافسه
معهم على السلطة أو تلك الحروب الخارجية التي خاضتها روضة سدير بزعامته مع
جيرانها حول الماء والمرعى. إنها تعطينا صورة عن الواقع السياسي والاجتماعي
لذلك العصر وما كان يعانيه أهله من آفات ومشاحنات تتمثل في استشراء الفتن وحدة
التنافس ودموية الصراع، عصر كان فيه الاغتيال خيارا كثيرا ما لجأ إليه الخصوم
لحل خلافتهم السياسية، حتى بين الأشقاء والأقرباء.
في مجتمع يفتقر إلى سلطة مركزية ودولة ومؤسسات تنظم العلاقات الإنسانية وتطبق
القانون تتحول كل العلاقات الاجتماعية والسياسية إلى علاقات شخصية ومباشرة
ومشحونة بالمشاعر. لا توجد في ذلك المجتمع قنوات ووسائط بيروقراطية أو رسمية
تحيّد العلاقات بين الأفراد وتعطيها طابع الموضوعية والحيادية. ولذلك تختزل
العلاقات السياسية لتأخذ شكل ومصطلح العلاقات القرابية والاجتماعية. فالحليف
السياسي مثلا يشار إليه بأنه "صديق" أو "صاحب" والمعارض السياسي يشار له بأنه
"واشي" أو "نمام" أو "عذول" والمواطن على أنه "جار" أو "قصير"، وما شابه ذلك من
مفردات لا تشير في الواقع إلى أفراد تربطهم مجرد علاقات شخصية وإنما إلى حلفاء
وأعوان وشخصيات تلعب أدوارا سياسية مساندة أو مضادة. هكذا ينبغي لنا أن نفهم
قصائد رميزان ونفسرها. كما أنه لا ينبغي لنا مثلا أن نفسر قصائده الغزلية
تفسيرا حرفيا فهو في الواقع لم يقلها في عشيقات من النساء يطمح إلى وصالهن
وإنما ليعبر عن آمال وتطلعات يطمح إلى تحقيقها.
الشعر بالنسبة لزميزان لم يكن مطلبا في حد ذاته بقدر ما كان وسيلة
التعبير المتاحة في ذلك العصر الشفهي لتسجيل المواقف السياسية وتخليد الأحداث
وبلورة الرؤى والتصورات حيال الواقع السياسي والاجتماعي بوجه عام. لم تكن
للكلمة الشعرية عند رميزان قيمة إلا بقدر ما هي تسجيل للحدث والفعل المؤثر.
لذلك غالبا ما تتناول قصائده مواضيع سياسية يؤكد فيها على صفات الأمير الذي
يحرص على أمن البلد وحماية مصالح الرعية والعفة عما في يد الآخرين، وهذه أهم
مقومات السيادة. ويقول إنه لا خير في سادة يجمعون ثروتهم "سمونها" من فرض
الأتاوات على من يلجأون إليهم طلبا للحماية، أو كما يقول "باغي ذراها":
فلا خير في سادات قوم من الثنا// جياعٍ معاليها شْباعٍ بطونها
ولا خير في نفسٍ ولا في مشيخه// إلى عاد من باغي ذراها سمونها
رميزان وخاله جبر بن سيار شاعران متعاصران يربط بينهما، إضافة إلى علاقة الرحم،
صداقة قوية يعززها تقاربهما في السن واشتراكهما في طريقة التفكير. كان كل منهما
أمير لبلدته في وقت اتسم بحدة الصراع على السلطة ودمويته. لذا كثيرا ما بث
أحدهما الآخر بما يشغل باله من هموم في رسالة شعرية تفيض بالشكوى وتلتمس النصح
والمشورة. غير أننا نلاحظ أن جبر بن سيار بلبل مغرد وفنان أقرب إلى شخصية
الشاعر منه إلى شخصية الأمير المثقل بهموم الأمارة. هذا على خلاف رميزان الذي
تنم أشعاره عن شخصية قيادية فذة وزعيم طموح ذو همة عالية. لكن قصائد جبر تنضح
وعيا سياسيا ناضجا كما في قصيدة نظمها ضمن طقوس تسليمه لإمارة القصب إلى ابن
أخيه يسدي إليه فيها بعض النصائح التي يجدر به اتباعها ليكون أميرا ناجحا.
والقصيدة مانيفيستو سياسي يختصر لنا رؤية أهل ذلك العصر في الأسلوب الصحيح
للحكم الذي ينبغي نهجه والسير عليه والأسلوب الخاطئ الذي ينبغي الابتعاد عنه،
وهي قصيدة طويلة منها قوله:
عامل لسكان البلاد بشيمه// بْسهالةٍ تَرْجي بها غفرانها
واجعل لهم نصف الكتاب شريعه// ينقاد كرهٍ سبعها مع ضانها
واجعل لهم بالوجه منك عباسة// وبشاشةٍ لاصلاحها في شانها
ويقول جبر في أحد قصائده مشخصا الوضع السياسي المزري آنذاك:
شيخانٍ ان فكّرت فيها لكنها// ثعالب طرفا تفسد الملك جايره
إن جيت تبغي نفعها جاك ضرها// جهارٍ وفيهم نيّة الخير بايره
ترى كسبهم ظلم الرعايا وطبعهم// يدلّك عليه ان مات تشبح بصايره
ويقول في قصيدة أخرى:
فلا خير في شيخٍ إلى عاد طلعه// قريبٍ وملاق الحكايا هذورها
راعي سياساتٍ بالادنين باطش// والاضداد في بلدانها ما يذورها
من الغش ممزوجٍ وبالوجه باسم// أخا منجلٍ حزّات الاقفا عَقُورَها
ولا يستغرب أن يتأثر حميدان بمدرسة جبر الشعرية ويسير على الدرب الذي اختطه له
لأن كليهما من مدينة القصب من قبيلة السيايرة من الدعوم من بني خالد. ومن
المرجح أن حميدان أدرك جبرا وروى عنه أشعاره. وأسلوب الشعر التهكمي الساخر الذي
نتلمس بداياته في بعض أشعار جبر طوره حميدان فيما بعد ليصل به إلى الذروة. كما
طور أسلوب النقد السياسي والاجتماعي الذي بدأه جبر بن سيار. ومعظم أشعار حميدان
تدور حول انعدام العدل والأمن في عصره والافتقار إلى الأسس السليمة التي يقوم
عليها الحكم السليم. ولا يمكننا في هذه العجالة أن نورد إلا النزر القليل من
الأمثلة على ما نقول منها هذه الأبيات من قصيدة يبين فيها حميدان الوضع المتردي
الذي آل إليه الحكام والأمراء في ذلك الوقت:
وبالحكام مِفْتَخْرٍ كِبيرٍ// إلى من شفت زولِه قلت قارِه
سمينٍ للصحن لو هو خروف// يدبّر مير تدبيره دِماره
جبانٍ ما يصادم له ضديد// ولا يومٍ صخى كفّه بْباره
وبالحكام من يحمى الرعيّه// عن العدوان عن سرقٍ وغاره
يسوس الملك في قلبه وعينه// ومقصوده عماره عن دماره
إلى من البدو داسوا كِمامِه// يخلّيهم جثايا بالمعاره
وهذه أبيات من قصيدة توضح أن حال العلماء آنذاك لم يكن أحسن حالا من الأمراء في
ظلمهم للرعية وممالأتهم للقوي ضد الضعيف والغني ضد الفقير:
العالم يِدخِل ما يِطلِع// سْحماً تاكل ولا تْحَمَى
يِحِبّ الكامد والجامد// من مال الغير الى وْلِما
وانا امدح في العالم شاره// واجوده في فرع الدهَما
لى جتك الطلبه في حلقك// وتقابلت انت وايّا الخْصِما
ودلّى يسمع نبط الخصمه// ولحقتك الشكّه والتهَما
الفِزْ في كفه دينار// ليّاه يضرّبك اليْهَما
ومثلها قوله:
وبالناس من هو يدّعي بديانه// متْمسّكٍ بديانته واوراده
عند الخلايق غافلٍ ويحسّن// ياخذ شْريطه مثل جارى العاده
عنده لراع الصاع موسٍ جيّد// واللي بلا صاعٍ له المكراده
احذر خداع الخاين المتعبّد// لو دام ليله والنهار عْباده
كم غَرّ فيها من غريرٍ جاهل// حَطَّه لمثله مثل فخٍّ صاده |