منزلة العقل في الفكر الديني/ الإسلام (التأسيس)
سعد الصويان
من
دلائل الارتباط بين الدين والدولة في الإسلام أن الخلافات المذهبية بدأت مع
الخلافات السياسية، بحيث دخل الدين والسياسة في عملية تغذية استرجاعية كل منهما
يؤثر في الآخر ويتأثر به. تصدعت وحدة المسلمين إثر مقتل عثمان وتولى علي
الخلافة. فقد خرج على خلافة علي طلحة والزبير، ثم تلى ذلك خروج عائشة وحرب
الجمل، وأعقب ذلك الخلاف بين علي ومعاوية والتقى جيشاهما في سهل صفين. ولم تسفر
معركة صفين عن انتصار لأي من الخصمين فلجأ معاوية إلى التحكيم. وكان قبول علي
بالتحكيم بمثابة طعنة نجلاء ضد شرعية خلافته. ونتج عن ذلك أن انشق عنه أخلص
مناصريه وهم الخوارج الذين تبرأوا من علي ومعاوية. وفرقة النجدات منهم، أصحاب
نجدة بن عامر الحنفي، أجمعوا على أن الأمة ليست بحاجة لخليفة وإنما عليهم أن
ينصفوا بعضهم البعض من أنفسهم وإن استحال عليهم ذلك جاز لهم تنصيب خليفة فيهم،
على أن يتولى الخلافة الأكفأ منهم حتى لو كان نبطيا أو عبدا حبشيا. أي أنهم
أجازوا أن تكون الخلافة في غير آل البيت، كما أجازوا الخروج على الخليفة
الفاسق. وبذلك كان الخوارج أول من أثار إشكالية الأسس التي تقوم عليها
السلطة السياسية والحدود التي تقف عندها. وفي مقابل الخوارج ظهر الشيعة يتشيعون
لعلي ويرون أن أمر الإمامة كالنبوة لا يجوز تفويضه للعامة بل هو حق إلهي لآل
البيت بحكم أنهم معصومون عن الخطأ والخطيئة. كان معظم الخوارج من البدو الذين
من طبيعتهم إعلان الرأي بصراحة والدفاع عنه بقوة لذلك جاء مذهبهم متوائما مع
طبيعتهم المصبوغة بخشونة الصحراء، بينما غالبية المنتمين للمذهب الشيعي من
الفرس الذين تعلموا من حضارتهم العريقة فنون التقية والمواربة والتغليف
الدبلوماسي ومداراة الأحوال والظروف، ثم إن الفرس، عرفوا الحكم الثيوقراطي
المطلق، على خلاف العرب. وبين هذين النقيضين جاءت المرجئة لتتخذ موقفا حياديا
من الأحداث وأبوا أن يرفعوا سيوفهم لقتال أحد. قالوا بأنه في ظل هذه الاضطرابات
يصعب الجزم من المخطئ ومن المصيب من بين هذه الأحزاب الذين يشهدون جميعهم أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إذا فلنرجئ الحكم عليهم ونفوض أمرهم إلى
الله الذي يعلم سرائرهم ليحاسبهم. وبينما كان الخوارج يوحدون بين إيمان القلب
وعمل الجوارح ويكفرون مرتكب الكبائر قال المرجئة إن الأصل في الدين الإيمان
وليس العمل حيث لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة.
ومن
الفرق التي تمخضت عنها أحداث الصراع بين علي ومعاوية فرقة اعتزلت الجميع، بما
في ذلك علي والحسين ومعاوية، وهؤلاء هم النواة التي ستتطور لاحقا إلى مذهب
المعتزلة. وكانت قضية الخلافة، لا العقيدة، هي القضية الأساس بالنسبة لها في
مرحلتها النشوئية، مثلها في ذلك مثل بقية الفرق التي عاصرتها. ومذهبهم في ذلك
أن الخلافة لا تنعقد بنص ولا تعيين ولا تكون إلا بإجماع الأمة (ديموقراطية!
انتخابات!) وذهبوا إلى ما ذهبت إليه الخوارج في أن الأمة لا تحتاج إلى إمام إذا
عدلت وخلت من الفسق. أما ما يخص العقيدة فقالوا بأن الأعمال جزء من الإيمان
ومرتكب الكبائر في منزلة بين المنزلتين، منزلة الكفر ومنزلة الإيمان.
ولما ترسخت الخلافة في يد بني أمية كان لا بد من البحث في النصوص عن مبررات
لذلك القهر وأعمال الظلم والعسف التي مارسها الأمويون على الرعية لتثبيت حكمهم.
واستجابة لذلك الظرف الذي تمخضت عنه السياسة ظهرت فرقة الجبرية. وزعيم هذه
الفرقة هو جهم بن صفوان الذي طفق يبحث في القرآن عن الايات التي ظاهرها الجبر
والتي لا تدع مجالا للإرادة والحرية. واستنتج من ذلك أنه لا خالق إلا الله
وأفعال الإنسان خلقها الله وتبعا لذلك فإننا لو قلنا أن الإنسان حر في أفعاله
لأشركنا مع الله إلها آخر. حياة الإنسان تخضع لقضاء الله خضوعا تاما لا تصح معه
نسبة أفعاله إليه إلا مجازا، على نحو ما ننسب مثلا الجريان للنهر والحركة
للحجر. هذا هو ما تقتضيه عقيدة التوحيد التي أسس عليها جهم مذهبه والتي قادته
بالضرورة إلى إنكار الصفات لله لأنها قد تفيد التعددية. فلو أثبتنا لله صفات
فإن ذلك يعني أن هناك ذات الله من جهة والصفة من جهة أخرى، هذا عدا كون الصفات
التي يمكن إضافتها لذات الله لا حصر لها. أضف إلى ذلك أن الصفات تفيد تشبيه
الله بخلقه، وهذا ما يتنافى مع التنزيه. أما ما ينسبه القرآن لله من صفات فذلك
مجرد ضرورة لفظية تقتضيها طبيعة اللغة وهدفها تقريب الذات الإلهية المنزهة إلى
أذهان البشر.
إلا
أن بعض أهل الرأي اشتموا في مذهب الجبرية دعوة إلى الركون إلى القدر وإبطال
التكليف الشرعي، فتصدت لهم فرقة القدرية التي تنكر الدعوى بأن كل شيء في هذا
العالم مقدّر وأنكروا على الحكام طغيانهم الذي كانوا يمارسونه استنادا إلى مذهب
الجبر. ومن أئمة المذهب القدري معبد الجهني الذي أعدمه عبدالملك بن مروان
وغيلان الدمشقي الذي أعدمه هشام بن عبدالملك، وذلك على أساس ما انطوت عليه فكرة
الاختيار من تحد لسلطة الخليفة وعدم تبرئته من أفعاله الجائرة بحجة أنها خاضعة
لقضاء الله الذي لا يرد. وقد مثل هذه الفرقة على صعيد الممارسة الأحنف بن قيس
حينما خطب معاوية على المنبر وقال للناس: علام تلومونني إذا أنا قصرت في
عطاياكم والله يقول: وما من شيء إلا عندنا خزائنه. فقال الأحنف: إنا والله لا
نلومك على ما في خزائن الله ولكن نلومك على ما أنزل الله لنا من خزائنه فجعلته
في خزائنك وحلت بيننا وبينه.
هذه
الخلافات المذهبية التي فجرتها معطيات السياسة واستغلال كل مذهب للنصوص يفسرها
بما يتفق والتوجه الذي يدعو إليه قادت بالضرورة إلى عرض النصوص ومسائل العقيدة
على محك النظر العقلي وإلى بروز إشكالية العقل والنقل وأيهما أحق بأن يتقدم على
الآخر. وكان نتيجة ذلك أن نشأت في الإسلام نزعة عقلية تزعمها علماء الكلام من
المعتزلة والأشاعرة. فقد ضاق علماء الكلام ذرعا بما دُس على الإسلام من
الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة التي تتنافى مع العقل وطبيعة الأمور، وساءهم
قبول السلف لهذا الحشو دون تدقيق عقلي ولا ضابط منهجي عدا الإسناد والتمسك
بظاهر النصوص. لم يجد المتكلمون أي حرج في اللجوء للعقل لتقرير أمور العقيدة،
فالآيات القرآنية التي تحث المؤمن على التفكر والتدبر واستخدام العقل أكثر من
أن تحصى. وقدموا العقل على النقل وحجتهم في ذلك أن الأفعال يُستدل على حَسنِها
وقبيحها وخيرها وشرها بالعقل، أما الشرع ففقد جاء ليُخبر عن هذا الحسن أو القبح
لا ليقرره.
وأكد المعتزلة على حرية الإنسان، مستدلين على ذلك بأن الله عادل لا يحب الجور،
ولذلك يسمون أنفسهم "أهل العدل". ولكن كيف فسروا ظهور الشرور في العالم إذا لم
يخلقها الله؟ يقولون بأن الله خلق العباد ولم يخلق أفعالهم وأعطاهم ما يسمونه
"الاستطاعة"، ليفعل كل ما يريد. والاستطاعة تعني القدرة على الفعل والترك على
حد سواء، فالعباد بذلك هم الخالقون لأفعالهم. ودليلهم على أن قدرة الله وإرادته
لا دخل لها في استطاعة العبد أنه لا يجتمع مؤثران على أثر واحد، وهذا ما يسمونه
"برهان التمانع"، فمن المستحيل أن يكون الله والعبد كلاهما مسؤول عن أعمال
العبد، إذ لو كان ذلك كذلك لبطل التكليف. وحيث أن أفعال العباد تشتمل المعاصي
التي يعاقبهم الله عليها فهذا كما لو أن الله يفعل أفعالا لا يرضاها ويدبر
أمورا يكرهها، وهذا لا يقبله عاقل. كان المعتزلة في إثباتهم الاستطاعة للبشر
يقصدون إثبات العدل لله ونفي الجور عنه. وكان قوم من النصارى، من أمثال يوحنا
الدمشقي، المعروف بابن سرجون، ادعوا أن الإسلام هرطقة مسيحية لأن الاعتقاد
بالقرآن، كلمة الله الأزلية، يشابه اعتقاد النصارى بأن المسيح كلمة الله
الأزلية تجسدت في المسيح. هذا اضطر المعتزلة إلى القول بأن القرآن مخلوق محدث،
ولهم في ذلك حجج يطول شرحها أساسها مبدأهم في تنزيه الله عن الصفات. وليس
المعتزلة أول من قال بخلق القرآن بل سبقهم جعد بن درهم وجهم بن صفوان وغيرهم
ممن قالو بأن "القرآن مخلوق للّه لم يكن ثم كان". أما إمام الأشاعرة أبو الحسن
الأشعري، حفيد أبي موسى الأشعري، فقد اتخذ موقفا وسطا بين المعتزلة وبين أهل
السنة والجماعة، فقسم أفعال الإنسان إلى اضطرارية كرعشة البرد وخفقان القلب
واختيارية كالمشي والقراءة، والإنسان لا يخلق أعماله الاختيارية وإنما يكسبها
اكتسابا بحكم ما خلق الله فيه من استطاعة على الفعل أو ترك الفعل. كما اتخذ
موقفا وسطا في مسألة القرآن مستفيدا من تفريق الفلاسفة الرواقيين بين الكلام
النفسي والكلام اللفظي وقال إن القديم في كلام الله هو الكلام النفسي، أي
المعنى، أما الكلمات والألفاظ فكلها مُحدَث. ومن طور الدفاع عن الدين انتقل
علماء الكلام من معتزلة وأشاعرة تدريجيا إلى دراسة الموضوعات الفلسفية كالحركة
والسكون والجوهر والعرض.
لقد
تبلورت هذه المذاهب الكلامية تجاوبا مع ما كان يمر به العالم الإسلامي من
مستجدات سياسية واجتماعية وكان لكل مذهب من هذه المذاهب مذهب آخر يعارضه
ويناقضه مستندا في محاجته إما إلى العقل وإما إلى النقل، وكان كل ذلك المخاض
الفكري في تلك المرحلة الجنينية صناعة محلية لم يتأثر بأي مؤثرالت خارجية، عدا
من اعتنق الإسلام من أناس كانوا قد تعودوا الجدل اللاهوتي والنظر العقلي. ولقد
تولدت عن هذه المذاهب مصطلحات وأفكار ونظريات أصبحت هي الأدوات التي استثمرها
الفلاسفة المسلمون فيما بعد وبنوا عليها نظامهم الفلسفي. هذه المذاهب هي حجر
الأساس لما طرأ تبعا لها من نشاط عقلي خالص في المجتمع الإسلامي وهي الدعائم
الفكرية التي قامت عليها المدارس الفلسفية في العالم الإسلامي كما سنرى في
المقالة القادمة.
|