اللغو الإعلامي في الفضائيات العربية
سعد الصويان
لحسن حظي أنني كاتب بلا جمهور، لذا فأنا لست مرتهنا لأكتب ما
أخمّن أن جمهوري من عامة القراء يتلهفون لقرائته، على غرار مقولة "الجمهور عاوز
كدا". كما أنني لست كاتبا محسوبا على نظام أو تنظيم لذا فأنا لست مضطرا لتبرير
وتمرير سياسات وتوجهات هذا النظام أو ذلك التنظيم. هذا يمنحني حرية التعبير
لأكتب ما يمليه علي الضمير وما يتوصل إليه التفكير المستقل من استنتاجات بعيدا
عن أي اعتبارات أخرى. وتذكروا أنني لست في موقع صنع القرار لذلك فإن ما أعبر
عنه هو مجرد رأي لا يقدم ولا يؤخر، إنه مجرد ممارسة لحقي الطبيعي في التعبير عن
رأيي، وياليتنا جميعا نجرب ممارسة هذه الحق الطبيعي بتجرد، وياليتنا كذلك نحترم
هذا الحق الطبيعي ونعترف به لبعضنا البعض ونتقبله برحابة صدر. واختلاف الآراء
أمر طبيعي في هذه الحياة وهو رحمة للعباد، ولا ينبغي لاختلافات الرأي أن تؤثر
على علاقات الود والاحترام المتبادل، ولا أن تؤدي إلى انعدام الثقة وتبادل
التهم والشكوك في الأهداف والنوايا، ولا أن تفسر على أنها خروج عن الإجماع
ومروق يهدد الأمن والمصلحة العامة. والمثل يقول "الاختلاف في الرأي لا يفسد
للود قضية"، وجدّاننا يقولون: "لولا اختلاف الانظار بارت السلع". وابن سبيل
يقول:
لك شوفةٍ وحده وللناس شوفات // ولا واديٍ سيله يفيّض بوادي
ما أود طرحه اليوم قد يبدو في الظاهر موضوعا سياسيا لكنه في
حقيقته ليس كذلك. فأنا لست من أرباب السياسة، ومواقفي، إن كانت لي من مواقف، هي
مواقف فكرية وذهنية وليست سياسية أو أيديولوجية. فأنا لا أريد أن أتقيد ذهنيا
بمواقف ثابتة ومسلمات لأنني لست من أنصار "لنا الصدر دون العالمين أو القبر".
عدا كوني أحب الحياة ومباهجها فإنني أريد أن أترك الباب مفتوحا للتفكير الحر
والمرونة الذهنية. هذه هي قضيتي. لا أريد أحدا أن يسلبني حرية الإرادة والتفكير
ولا أن يمارس علي التدليس والتضليل. ولقد خضت في هذا السبيل الكثير من المعارك
مع الإعلاميين ومع وسائل الإعلام، خصوصا تلك التي تتعمد ممارسة غسل العقول
وتضليل الجماهير عن قصد وسبق إصرار.
لو كان مدار الحديث عن الغباء الإعلامي لقلت أننا جميعا "في
الهوا سوا"، فوسائل الإعلام العربية، المقروءة منها والمسموعة والمرئية تكاد
كلها تفتقر إلى الحد الأدنى من الاحترافية والمهنية، خصوصا الرسمية منها
والحكومية. أما الخاصة فإن آخر ما تفكر فيه هو رفع مستوى الوعي بين المواطنين
وتبصيرهم بمجريات الأمور، ما يهمها في المقام الأول هو حجم الإعلانات والتوزيع
وزيادة الدخل، حتى ولو كان ذلك على حساب أخلاقيات المهنة وممارسة التهريج
والتطبيل. أن يكون الإعلام غبيا وعاجزا فهذه شكوى نرفعها إلى الله على أمل أن
الزمن كفيل بتغيير الوضع نحو الأفضل. أما الشيء الذي لا يُغتفر فهو تعمد
التضليل واستغفال المشاهد. وأسوأ ما في الأمر أن هذه الممارسات تصدر من جهات
وقنوات فضائية تدعي وتطرح نفسها على أنها مثالا يُحتذى في الاحترافية
والموضوعية والالتزام المهني. ومع أنها لا تمل ولا تكل من ترويج هذا الادعاء
إلا أن مساحة الرأي فيها لا تتسع لأي رأي آخر أو اتجاه معاكس وتصم كل من لا
يصطف في طابورها بأنه خائن وعميل.
أنا لا تعنيني مواقف هذه القنوات ولا مواقف من يموّلون مثل هذه
القنوات. ما يدعو إلى الأسى هو انجراف المشاهد العربي وتصديقه مثل هذا التدليس
الإعلامي. أليس من الاستغفال والتدليس أن تدعي أحد القنوات أن استضافة قاعدة
أمريكية وإقامة علاقة مع اسرائيل هو عين العقل وهي السبيل الأمثل لخدمة القضايا
العربية! بينما هي في الوقت ذاته تخوّن الدول العربية التي هي الأحرص على مصلحة
لبنان فقط لأن هذه الدول قالت، ومن باب الحرص الشديد على مصلحة لبنان، بأن خطف
حزب الله للجنديين الإسرائيليين مغامرة غير محسوبة وتصف القناة ذلك بأنه إعطاء
الضوء الأخضر لإسرائيل للقضاء على حزب الله. ألا يثبت هذا الدمار وهذه المجازر
والمآسي والنكبة التي تحل الآن بلبنان أن المغامرة كانت فعلا مغامرة غير محسوبة
فتحت أبواب جهنم على مصراعيها؟ هل تستحق هذه المغامرة هذا الثمن الباهظ الذي
تدفعه لبنان؟ لماذا كلما دقت طبول الحرب في وطننا العربي عدنا إلى تكميم
الأفواه وإلى منطق: لا صوت يعلو على صوت المعركة؟ لماذا كلما أمسك واحد منا
زناد بندقيته فقدنا قدرتنا على التفكير لنصطف وراءه ظالما أو مظلوما؟ ألا يجيد
العرب لغة غير لغة الحرب؟ ألا تتسع حناجرهم لغير أهازيج المعارك والأناشيد
الحماسية؟ ألا تستلذ أسماعهم لغير لعلعة الرصاص؟ ألا يوجد عندنا متسع للتفكير
الهادى والمناورات الدبلوماسية والحلول السياسية!
التصريح بأن ما قام به حزب الله مخاطرة غير محسوبة قد يرى البعض
فيه زلة دبلوماسية لكن من المؤكد أن المراقب المنصف لن يرى فيه إعطاء الضوء
الأخضر لإسرائيل بضرب حزب الله، فهذا أبعد ما يكون عن أذهان الدول التي تحفظت
على ما قام به الحزب. وإذا عرفنا الجهة التي تروج لهذا الغمز واللمز الرخيص
تأكد لنا أن المقصود بذلك هو السعودية تحديدا وفي المقام الأول. هل يعقل أن
السعودية التي صرفت مليارات الدولارات لإعمار لبنان والتي استثمر قطاعها الخاص
في لبنان ثروات طائلة والتي يقصدها مئات الآلاف من السياح السعوديين تريد لهذا
البلد أن يدمر في طرفة عين! هل يعقل أن السعودية التي طرحت في قمة بيروت مبادرة
سلام جادة تدق طبول حرب كارثية ضد لبنان! لماذا هذه الحساسية المفرطة تجاه
الرأي المتزن والمتعقل والرصين! وعلى كل حال فإن لبنان وشعب لبنان، بما فيهم
حزب الله، يعرفون من هو حقيقة صديقهم في وقت ضيقهم. أن تنصح صديقك وتصارحه
بخطئه وتحذره من مغبة أفعاله لا يعني أنك تتخلي عنه وتمالئ عدوه عليه. إن هذا
دليل على صفاء النية ونبل القصد والحرص على ما فيه مصلحته وسلامته بعيدا عن
النفاق والمزايدة والتزلف الرخيص.
نعم قد تكون إسرائيل ومن خلفها أمريكا خططت مسبقا لغزو لبنان
وتدميره. لكن هذا لا يجيز لأحد أن يمدها بالذريعة للقيام بذلك بحيث أصبح الوضع
العربي على الساحة الدولية مربكا وصعبا للغاية. هذه المغامرة غير محسوبة لأنها
جعلت من السهل على اسرائيل أن تحول الضحية إلى جلاد في نظر الرأي العام العالمي
وعقّدت اجراءات استصدار قرار من هيئة الأمم المتحدة والحصول على إجماع دولي
يلجم اسرائيل ويوقف عدوانها على لبنان. هذه الذريعة هي التي مكنت اسرائيل من
تحقيق انتصارات على الساحة الدولية، إضافة إلى انتصاراتها في ساحة المعركة.
لنعد إلى قناة الجزيرة فلم يعد خافيا أنها المقصودة هنا. لم
تكتف القناة بالتلميح بالتخوين، بل إنها وظفت أسلوبا آخر من أساليب التضليل
الإعلامي الممجوجة، وهو أسلوب التعميم، فلقد التقطت، وبكل فرح، فتوى غير موفقة
نطق بها أحد المحسوبين على علماء الدين عندنا لتعممها وكأنها تعبر عن جملة
الموقف السعودي والتوجه الشعبي هنا، وصارت ترددها وتجند الناس من هنا وهناك
للرد عليها، وكان الأولى تجاهلها فهي ليست إلا مجرد رأي لإنسان يعيش خارج العصر
ولو لم تروج لها القناة لما علم بها أحد. إن كان هناك جهة تريد زرع بذور الفتنة
الطائفية فهي قناة الجزيرة بأسلوبها المفضوح الذي لم يعد ينطلي على أحد.
الكثيرون يودون لو أن حزب الله لم يجر لبنان إلى أتون الحرب
والدمار، لكن هذا لا يعني أنهم سيتخلون عنه في محنته ويسلمونه إلى إسرائيل.
الوقوف مع المقاومة ومع لبنان في هذا الظرف العصيب واجب وطني ومسؤولية أخلاقية.
كلنا مع المقاومة ونتعاطف معها بلا حدود وكلنا فخورون بشجاعة رجالها وصمودهم
البطولي وتضحياتهم اللامحدودة والتي رفعت رؤوسنا جميعا، لكن هذا لا يعفينا من
مسؤولية النصح والتنبيه إلى الأخطاء التي ترتكبها قيادات المقاومة ومطالبتها
بتحسين أدائها. إذا كانت المقاومة يهمها تأييدنا الواعي والفاعل فعليها أيضا أن
تتقبل منا النقد، وإلا فإننا نتحول إلى مجرد روبوتات مشلولة التفكير ومسلوبة
العقل والإرادة ونستبدل دكتاتورية الأنظمة بدكتاتورية المقاومة التي يفترض فيها
أن تحرر عقولنا وأجسادنا.
عموما أنا لم أكتب لأنتقد المقاومة ولا لأبرر مواقف من انتقدوها
فلست الشخص المؤهل لذلك وليس هذا هو الوقت المناسب. نقدي موجه للمؤسسات
الإعلامية التي تتخلى عن مسؤوليتها وتتعمد اغتيال العقل وطمس الحقائق وتلوين
المعلومات ولي أعناقها لأهداف تتنافى مع رسالة الإعلام المحايد والشريف.
يقول حميدان الشويعر:
الحرب يوقّد برجال // وجْيادٍ تِرْبَط ونْفِقِه
يشبّ الفتنه مقرود // نزغة شيطانٍ وحْلِقِه
والى اشتدّت معالبها // قَفّى ناير مثل السلِقِه
كْسَروا عظمه خَذَوا ماله // خِلّي عْياله لهم لْعَقِه
|