الدولة السعودية الأولى: عَوْدٌ على بدء
سعد الصويان
بعد نشر مقالتي التي استعرضت فيها نظريات نشوء الدولة السعودية
حدث سجال على الإنترنت بيني وبين الزميلة مضاوي الرشيد حول الموضوع. كان سجالا
ممتعا استفدت منه كثيرا ونبهتني الد كتورة مضاوي إلى أمور لم أنتبه لها من قبل
وأثارت في ذهني عددا من الأسئلة. كان أحد هذه الأسئلة الشائكة التي طرحتها علي
هو لماذا قامت الدولة في منطقة العارض بدلا من القصيم. وقد استصعبت السؤال في
البداية، لكني بعدما قلبته في ذهني خطر لي أن القصيم لم تتحول إلي منطقة
استقرار حضري إلا في وقت متأخر، مقارنة بمنطقة العارض ووادي حنيفة. هذا
إذا كنا نتحدث عن تاريخ نجد الذي يبتدأ من الفترة التي سبقت ظهور الإسلام. أما
ما قبل ذلك فعلمه وأدلته عند المختصين في البحث الأثري. ظهرت الدعوة الإسلامية
واليمامة تُقيت بقمحها ورُطَبها مكة ومدن الحجاز وتطَلّع نبيّها مسيلمة أن
يشارك محمدا في الأمر. هذا بينما القصيم، أين القصيم؟ القصيم لم يولد بعد. كان
القصيم حينها يعني شقائق الرمل التي تنبت فيها قصايم الغضا والارطا، لا غير.
منذ بداية العصر التاريخي ونحن نقرأ أن الحدائق الغناء وبساتين الزرع وغين
النخيل تحف ضفاف وادي حنيفة، بينما لا نجد على ضفاف وادي الرمة إلا الروضات
والفياض والمفالي. وليست منطقة حائل والشمال بأحسن حال من القصيم، كلهم بدو
يارسول الله. ومن أدلة السبق الحضاري لمنطقة العارض أن العلم وفد منها إلى
القصيم قبيل ظهور الدعوة الوهابية على يد الشيخ ابن عضيب، الذي بالمناسبة لم
تكن مشاعره دافئة تجاه الدعوة. وفيما بعد كان معظم مشائخ القصيم وعلمائه يفدون
إليه من منطقتي الوشم والعارض. كانت القصيم حينداك منطقة فرونتيير
frontier
مدنها كلها حديثة نعرف مؤسس كل واحدة منها وتاريخ تأسيسها، بينما يعود تاريخ
بعض مدن وقرى الوشم والعارض إلى ما قبل الإسلام (كان جرير والفرزدق يتندّحون
فيها ويترادّون)، إلى عصور سبقت طسم وجديس. بينما كانت القصيم فلاة ترعاها
الإبل كانت منطقة العارض والوشم تعج بالعلماء وتعج بالإمارات الثرية والقوية
التي قد تصل في حجمها حجم أحد دول الخليج الصغيرة. كانت هذه الإمارات في صراع
مستمر، كل منها تخوض حروبا توسعية تحاول من خلالها مد نفوذها وسيادتها على
جاراتها، ولكن أيا منها لم تتمكن من تحقيق هذا الطموح لأنها لم توفق في العثور
على المعادلة اللازمة لتحقيق السيادة الشاملة، بكل أبعاد هذه المعادلة السياسية
والعقائدية والعسكرية والاقتصادية.
في الفترة التي سبقت ظهور الدعوة نلاحظ أن أهل منطقة الوشم
والعارض كانوا قد وصلوا إلى درجة لا بأس بها من النضج السياسي في تفكيرهم وفي
فهمهم لشرعية السلطة ومقومات الحكم وواجبات الحاكم، مما يعني أن الأجواء صارت
مهيأة لتقبل فكرة الدولة والسلطة المركزية، وهذا ما تعكسه نصوص الشعر النبطي
التي وصلتنا من تلك الفترة والتي لم ندرسها بعد كمادة تعكس الواقع السياسي
والاجتماعي. ازدهار الشعر النبطي والاحتفاء به وتدوينه كان يشكل حلقة من حلقات
الازدهار العلمي والأدبي التي كانت تعيشه المنطقة قبيل ظهور الدعوة الوهابية،
والتي كانت الدعوة أحد إفرازاتها. ويمكننا أن نستدل من هذا الشعر النبطي أيضا
على مدى انتشار التعليم، حيث أن معظم من وصلنا شعرهم من تلك الفترة كانوا
متعلمين نسخوا أشعارهم بأيديهم، ومن ذلك الأصل تناسلت النسخ والمخطوطات
اللاحقة. هذا عدا ما تزخر به أشعارهم من إيماءات إلى الأدب العربي وتناص مع
قصائد كلاسيكية فصيحة ومن تفقه في أمور الدين والعقيدة.
من الشعراء الذين يمكن الرجوع لهم في هذا الصدد أولئك الذين
وصلنا كم لا بأس به من أشعارهم مثل رميزان ابن غشام، أمير رو ضة سدير، وخاله
جبر ابن سيار أمير القصب، وحميدان الشويعر من القصب أيضا، أتى بعد الإثنين
مباشرة. وقد بلغ كل واحد من هؤلاء حدا من الشهرة أحاله عند العامة من شخصية
تاريخية إلي رمز أسطوري تحاك حوله الحكايات. ويكفيك من شهرة رميزان أن مؤرخي
تلك الفترة ينعتونه بالبطل الضرغام. إلا أنه، وبالرغم من المكانة الاجتماعية
والسياسية لجبر ورميزان، تفوق حميدان عليهما بسخريته اللاذعة، مما جعل
شعره ينتشر بين الناس، وقد أسس حميدان مدرسة شعرية وحاول بعض من جاء بعده من
الشعراء السير على نهجه، مثل عبدالله بن جعيثن وسليمان بن علي، لكنهم لم يحققوا
نفس النجاح لأن قضايا شعرهم قضايا شخصية أما القضايا التي يطرحها حميدان في
شعره فهي قضايا اجتماعية وسياسية ومن الوزن الثقيل، خصوصا حينما يمثل في أشعاره
دور الإنسان المحطم المسكين الذي يعاني من قهر الحكام وجشع التجار وظلم القضاة.
ومن الخطأ مقارنة سخرية حميدان بسخرية الحطيئة، كما يفعل بعض النقاد، لأن سخرية
الحطيئة لا يوجهها وعي ولا تقود إلى فعل بينما سخرية حميدان تقود ألى توعية
الناس بما يعانونه من مظالم وتحثهم على تغيير واقعهم نحو الأفضل. لكن لا شك أنه
أخذ عن الحطيئة خطة البدء بالاستهزاء بالذات والسخرية من النفس. لكنني اعتقد أن
حميدان حينما يوظف هذه الحيلة الشعرية ويهجو نفسه وبنته وولده ويفضح أمرهم فإنه
ما كان، كما يعتقد بعض النقاد، يفكر بما كان يفكر فيه الحطيئة. لم يكن القصد في
حالة حميدان سد الباب على من يريد أن يرد عليه ويهجوه من الشعراء، كما هو الحال
بالنسبة للحطيئة. كان حميدان، إلى حدٍّ ما "يتهيبل ويتبهلل"، على نموذج جحا،
مثلا، ولكن ليس بنفس الطريقة المبالغ فيها، ليضع نفسه في خانة "اللي ما عليهم
شرهه." أي مرفوع عنه العتب. يبدأ بالسخرية من نفسه تحاشيا لعقاب من ينتقدهم
ويتندر بأفعالهم من الأمراء والحكام، وهو بذلك يعطي لنفسه مساحة أوسع لنقد
الواقع السياسي وتحليله وتصويره على حقيقته. لكن ذلك لم يجده نفعا. أفكار
حميدان السياسية كلفته كثيرا، فقد طورد وشرد واضطر للجلاء أكثر من مرة. لكن
شعره السياسي ونقده الساخر للأوضاع العامة أسس له رصيدا شعبيا لا يستهان به.
هذا الرصيد الشعبي شكل له سياجا وحماية خففتا عنه بعض الشيء من وطئة جور الحكام
الذين كان كل واحد منهم يتمنى لو يقطع رأسه ويسكت صوته.
الشكل الفني الساخر الذي وظفه حميدان في عرض قضاياه ومواضيعه
الشعرية هو الذي حقق لاسمه الشهرة، أما القضايا والمواضيع في حد ذاتها فإنها
كانت متداولة بين الكثيرين من شعراء تلك الفترة الذين كانت معظم قصائدهم تتناول
الحالة السياسية والاجتماعية، كما تشهد على ذلك أشعار رميزان بن غشام وجبر بن
سيار. والواقع أن قصائد حميدان، في اتخاذها من الواقع السياسي والاجتماعي
موضوعا، تمثل امتدادا لمدرسة جبر بن سيار الشعرية، خصوصا وأنهما من نفس البلدة
وتربطهما صلة القربى والجوار. لكن حميدان أخذ هذا الأسلوب و"حدّثه" بأن عمقه
ومزجه بالسخرية السوداء.
ومع الأسف أن الناس لا يعرفون من شعر رميزان إلا المقدمة
الغزلية لقصيدة ظاهرها غزل ولكن إيحاءاتها ورموزها سياسية بعث بها ألى خاله جبر
بالقصب ومطلعها يقول: ياجبر هو ظيم الليالي ينجلي. وقد تكون المحبوبة التي
يتغزل بها رميزان هي إمارة الروضة قبل أن يستولي عليها، حينما كان يطمح إليها.
وقصائد رميزان كلها سياسية تحكي معاناته في تحمل السلطة والمسؤوليات الباهضة
المترتبة على ذلك، وتتراوح بين الغموض والتشاؤم إذا كان مكسور الخاطر خارج
السلطة وبين التفاؤل والوضوح إذا كان منتشيا على رأس السلطة. ولكي يبرر اغتصابه
الإمارة من الأسرة الحاكمة قبله يورد في قصائده معايير الحكم العادل التي حادت
عنها تلك الأسرة في ممارستها للحكم بينما هو سيتقيد بها. هناك مصطلحات وتعابير
ومفاهيم سياسية مشتركة ومتداولة بين هؤلاء الشعراء الثلاثة ومبثوثة في أشعارهم
مما يجعل قصائدهم متناصة بشكل كثيف، وهذا يجعلني أرى فيها تعبيرا عن وعي عام
وإرادة جماعية كانتا تختمران في أذهان الجميع. وأهم ما في هذه الرؤية التأكيد
على ضرورة تطبيق الشريعة لضمان سيادة مبدأ العدل، وهذا من أهم الأسس التي قامت
عليها الدولة والدعوة. منذ تلك المرحلة والعارض تتمغّط استعدادا للوثوب.
في هذه القصائد نجد أيضا حضورا قويا للسيف، رمز السلطة والقوة،
لكنه ليس السيف البتار الذي تقطع به رقاب الكفار ولا السيف الذي يثأر به المرء
من قاتل أخيه وابن عمه ولا السيف الذي يشهره الطغاة، وإنما السيف الذي يقيم
العدل ويأخذ حق الضعيف من القوي والظالم من المظلوم. أتصور أن هذا هو المعنى
الرمزي للسيف في مخيلة الناس عندنا، وحينما يعتزي الحاكم أو ولي الأمر بسيفه
فإنه لا يقصد إرهاب الناس وإنما يريد أن يؤكد على التزامه بإقامة العدل ورفع
الحيف عن المظلوم. وحينما يقترن السيف بالمصحف فإن المصحف يصور المصدر الرمزي
للتشريع بينما يصور السيف السلطة التنفيذية. ولا يقصد من ذلك، كما يتصور بعض
الغربيين، أو حتى الأصوليين المتطرفين، نشر الدين الإسلامي وإكراه الناس على
قبوله بقوة السلاح. لاحظ الفرق بين حضارة الصحراء العملية وحضارة الماء
التأملية. الإغريق ذهبوا إلى الرمز الذي تعنيه العدالة وهو القسطاس بينما ذهبنا
نحن إلي الأداة التي بها تتحقق العدالة، أداة القوة التنفيذية والتي بدونها
يصعب تحقيق العدالة وإنفاذ القضاء. هذا الدمج الرمزي في أذهاننا بين السيف
والعدالة شوّش التفكير بحيث لم يستطع منتوجنا الثقافي والفكري أن يبلور تصورا
سياسيا يتضمن إمكانية فصل التشريعي عن التنفيذي، القضائي عن السياسي.
|