نظريات تُفسّر نشأة الدولة السعودية
سعد الصويان
النجاح الذي حققه تحالف محمد بن عبدالوهاب مع محمد بن سعود في
تأسيس دولة مركزية لا سابق لها وسط الجزيرة العربية قد شد اهتمام المؤرخين
والباحثين فظهرت العديد من الدراسات التي تحاول البحث في الجذور التاريخية لهذه
الدولة وظروف نشأتها. ومن بين ركام الدراسات والأبحاث التي تتناول هذه الظاهرة
الفريدة تبرز ثلاث رسائل علمية متميزة قدمها ثلاثة من الباحثين السعوديين لنيل
شهادة الدكتوراه. تتميز هذه الرسائل الثلاث في أنها تحاول تقديم طرح نظري يتعمق
في البحث عن الظروف التي نشأت فيها الدولة السعودية ويفسر الأسباب التي أدت إلى
قيامها بينما تتخذ الدراسات الأخرى منحىً تاريخيا سرديا فقط تحاول من خلاله
تتبع الأحداث وترتيب تسلسلها وتحديد تواريخها. ومما يؤسف له أن هذه الرسائل
الثلاث على الرغم من تميزها وأهميتها لم تنشر ولم تترجم إلى العربية.
طليعة هذه الرسائل رسالة قدمها الدكتور عويضة بن متيريك الجهني،
أستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود، سنة 1983 لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة
واشنطن عنوانها
تاريخ نجد قبل الوهابيين: دراسة عن الأحوال الاجتماعية والسياسية والدينية في
نجد خلال القرون التي سبقت حركة التصحيح الوهابية. على كثرة ما قرأت من
الكتابات التي تتناول الجزيرة العربية وتاريخ الدولة السعودية فإنني لم أقرأ
كتابة على هذا القدر من الرشاقة المنهجية والأناقة في الصياغة والوضوح في العرض
وطرح الأفكار المدعومة بالحقائق والأدلة والبراهين المنطقية المتسلسلة. كانت
رسالة مثالية في منهجيتها وصياغتها ووضوحها. يلاحظ الدكتور الجهني أنه خلال
القرنين السابقين لقيام الدولة السعودية زاد معدل سقوط الأمطار وسنوات الخصب في
نجد مما أدى إلى زيادة هجرة القبائل البدوية من غرب الجزيرة وجنوبها الغربي إلى
وسطها، وبالتالي زيادة عدد السكان في نجد. في هذه الفترة تشكلت الكيانات
القبلية النجدية الكبيرة والقوية مثل عنزة والظفير والدواسر ومطير وبني خالد
وقحطان. كما نشطت حركات الاستيطان والاستقرار الحضري بشكل ملحوظ في مناطق
العارض والوشم وسدير والقصيم. نشاط الاستيطان أدى بالتالي إلى نشاط الزراعة
والتجارة، وهذا بدوره أدى إلى نشاط حركة التعليم وظهور العلماء الذين لم يكن
لهم وجود في القرون السابقة، والذين بدأت أعدادهم في كل قرن تتضاعف عن القرن
الذي قبله. زيادة عدد القرى والمدن الناشئة وازدحامها النسبي بالسكان أدى إلى
حدة التنافس على الثروات الطبيعية من مياه ومراعي وأراضي خصبة صالحة للزراعة.
والمتتبع لتاريخ تلك الفترة يلاحظ كثرة الحروب بين المدن وحدة الصرعات على
السلطة والتنافس بين سكان البلدة الواحدة، إضافة إلى زيادة معدل الهجرة إلى
العراق والشام ومناطق الساحل الشرقي. وشهدت الفترة ظهور إمارات قوية في ثرمدا
والعيينة وحريملا والروضة وغيرها. هذا التفجر الديموغرافي والنمو الاقتصادى
والتطور السياسي وزيادة نسبة التعليم جعل سكان نجد يتطلعون إلى تحسين أوضاعهم
ويبحثون عن مخرج من التفكك والشتات والصراعات التي كانوا يعانون منها. كان ظهور
دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تتويجا للإرهاصات التي سبقتها والمتمثلة في زيادة
نسبة التعليم وزيادة عدد العلماء مثلما أن ظهور الدولة السعودية كان تتويجا
للتطورات السياسية المتمثلة في ظهور الإمارات القوية السابقة لها.
هذا التفسير الذي يقدمه الجهني لظهور دعوة الشيخ محمد بن
عبدالوهاب وقيام الدولة السعودية يبدو معقولا ومقنعا لأول وهلة، لكن لو تدبرنا
الأمر بتمعن لوجدنا أن تاريخ الجزيرة العربية على مر القرون وكر العصور هو
عبارة عن دورات متعاقبة من الخصب والجدب، فلماذا هذه الدورة بالذات من بين كل
الدورات التي سبقتها هي التي قادت إلى هذه النتيجة. إذا لا بد من البحث عن
عوامل أخرى مساعدة، وهذا ما يحاول أن يقوم به الدكتور محمد الفريح، أستاذ
التاريخ بجامعة الملك سعود، في رسالته التي قدمها سنة 1990 لنيل شهادة
الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس وعنوانها الخلفية التاريخية
لظهور الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحركته. إضافة إلى ما ذكره الجهني في رسالته
يورد الفريح عوامل خارجية سبقت قيام الدولة السعودية وساعدت على قيامها. فمن
المعروف أنه في سنة 1497 أبحر المكتشف البرتغالي فاسكو دي جاما حول رأس الرجاء
الصالح واتجه شرقا عبر المحيط الهندي إلى ساحل مالابار الهندي. وفي سنة 1509
أرسل البرتغاليون أربع سفن تجارية إلى ملقا ثم استولوا سنة 1510 على جوا على
ساحل الهند الغربي وسيطروا على التجارة في غربي أندونيسيا. واستمرت سيطرتهم حتى
نهاية القرن السادس عشر حينما تأسست شركة الهند الشرقية البريطانية سنة 1600
وشركة الهند الشرقية الهولندية سنة 1602. واحتد التنافس بين الشركتين للسيطرة
على التجارة في جزر الهند الشرقية، خصوصا تجارة التوابل. هذه التطورات مع ما
صاحبها من تطورات في صناعة السفن وتقنيات الملاحة أدت إلى انهيار النظام
التجاري القديم مما حدى بأهل الجزيرة إلى تحويل استثماراتهم نحو الداخل فأسسوا
المستوطنات واتجهوا نحو الزراعة والاتجار بالخيول والإبل. ومما شجعهم على ذلك
زيادة طلب الدولة العثمانية على هذه السلع، ومن بعدها الحكومة البريطانية في
الهند. كما أن اكتشاف القهوة وزراعتها في اليمن عزز من التجارة الداخلية في
الجزيرة العربية وزيادة حجم صادراتها. هذه هي الفترة التي شهدت تزايد نشاط
العقيلات من أهالي نجد الذين عملوا علي نقل البضائع الشرقية برا على إبلهم من
موانئ الخليج إلى موانئ الشام على البحر الأبيض المتوسط ثم نقل البضائع الغربية
في الاتجاه المعاكس في رحلة تستغرق حوالي شهرين، وقد يصل عدد الإبل في هذه
القوافل إلى أكثر من خمسة عشر ألف بعير محملة بالسع والبضائع. كما أن المحاولات
الجادة التي قامت بها الدولة العثمانية لتأمين طرق الحج أدى إلى كثافة عدد
الحجاج وبالتالي زيادة الطلب على الإبل لاستخدامها في نقل الحجاج، وكذلك صرف ما
يسمى "صرة" إلى شيوخ القبائل التي تقع على طرق الحج لتأمينها. وقد شكل ذلك
مصادر دخل لا يستهان بها لأهالي نجد وبالتالي توفر الفائض في الإنتاج اللازم
لخزينة الدولة والذي لا يمكن قيام الدولة بدونه.
الرسالة الثالثة قدمها الدكتور خالد الدخيل، أستاذ علم الاجتماع
السياسي بجامعة الملك سعود، سنة 1998 لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا
في لوس أنجليس عنوانها الجذور الاجتماعية للحركة الوهابية. يقدم الدكتور
الدخيل رؤية مختلفة وجديرة بالاهتمام، فهو يرى أن هناك أسبابا اجتماعية ساهمت
في تهيئة الظروف لنجاح دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وقيام الدولة السعودية.
كانت القرى والبلدات النجدية في السابق تقوم على أساس قبلي بحيث ينتمي غالبية
السكان في البلدة، إن لم يكن كلهم لنفس القبيلة، أو الفرع القبلي. لكن في مراحل
تاريخية متأخرة بدأ هذا النظام القبلي في المستوطنات الحضرية يتفكك بحيث نجد
أعضاء القبيلة الواحدة مشتتين في عدة قرى والقرية الواحدة مأهولة بسكان ينتمون
إلى قبائل مختلفة. في ظل هذا التطور الاجتماعي أصبح من المحتم أن تحل سلطة
الدولة محل سلطة القبيلة المتصدعة. وفي هذا السياق يتماهى الديني مع السياسي في
دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى التوحيد ونبذ الشرك. هذا يعني على الصعيد
الدنيوي نبذ الفرقة والتشرذم وإخضاع البلاد لسلطة سياسية واحدة.
وهناك باحث أمريكي لا تتحدث عنه مصادرنا حينما نبحث تاريخ
الدولة السعودية علما بأن له أبحاثا عديدة في هذا الموضوع وعلى قدر كبير من
الأهمية، ذلكم هو الأستاذ مايكل كوك
Michael Cook
من جامعة برنستون. من ضمن أعماله مثلا عدة أبحاث تتناول مصادر تاريخ الدولة
السعودية وبحث يحاول فيه تحديد هوية مؤلف كتاب "لمع الشهاب". كما أن له كتاب
ضخم عن تطور مفهوم وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي أحد أبحاثه
يرى أن العقيدة لعبت دورا حاسما في قيام الدولة السعودية لأنها المنبع الذي
استمد منه آل سعود الأوائل المثابرة والإصرار والثبات والعزيمة على المضي قدما
في برنامجهم نحو تأسيس دولتهم. ويستعرض كوك في بحثه مختلف التعليلات والأسباب
لقيام الدولة السعودية لكنه في النهاية لا يجد أيا منها كافيا في حد ذاته ويختم
بالقول إنها ببساطة "معجزة إلهية".
ولم يبق لي مساحة كافية لأبسط وجهة نظري الشخصية حيال هذا
الموضوع. باختصار، يرى البعض أن الأمير هو الذي كان بحاجة الشيخ ليدعم مشروعه
التوسعي. لكنني أعتقد أن الشيخ هو الذي كان بحاجة الأمير لأنه كان مقتنعا بأن
تطبيق الشريعة أمر مستحيل بدون وجود سلطة مركزية قوية وشمولية تتولى تنفيذ
الأحكام بعد أن يصدرها القضاة، وذلك وفق مفهوم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع
بالقرآن. ثم إن نشاط العقيلات التجاري واللوجستي ساعد على قيام الدولة لأنهم
كانوا يفضلون سلطة واحدة يدفعون لها الرسوم والضرائب بدلا من تعدد السلطات
المتمثلة في أمراء المدن وشيوخ القبائل المنتشرة على طرق التجارة والتي تطالبهم
كل منها بدفع ضريبة لها. وهذا بالتحديد ما حدث مثلا في أوربا وأدى إلى انهيار
نظام الاقطاع وقيام الدول الحديثة هناك بعد نشاط التبادل التجاري وظهور طبقة
التجار.
|