نصيحة مهداة إلى شباب الساحات
سعد الصويان
لست
من رواد الساحات وكنت عازفا عنها طيلة المدة الفائتة لما أسمعه من مرتاديها عن
أساليب كتّابها في الكتابة ولغتهم في التخاطب والقضايا التي يطرحونها. ولكن
شاءت الأقدار في الأسبوع الفائت أن أدخل الساحة العربية وهالني ما رأيت وقرأت
مما أغراني لدخول الساحة السياسية ثم الساحة الإسلامية فوجدتها كلها على نفس
الشاكلة، حذو القذة بالقذّه. فجلست أفكر وأتمعن في هذا الوضع بسلبياته
وإيجابياته، وهو لا يخلو من الإيجابيات حتى وإن طغت عليه السلبيات، هذا إذا
نظرنا إلى مجمل الموقف نظرة موضوعية محايدة.
من
الواضح أن القائمين على هذه المواقع لا ينقصهم لا الإخلاص لقضيتهم ولا الالتزام
بما يؤمنون به ولا التفاني والحماس الذي يصل في بعض الحالات إلى درجة الغلو،
وهذه مع الأسف من الخصال التي نفتقد إليها في باقي المجالات الخَدَمية
والاجتماعية في بلدنا وأتمنّى لو تتوفر لدى الموظفين والعاملين في أجهزة الدولة
وباقي القطاعات العامة والخاصة بنفس القدر الذي هو متوفر لدى شباب الساحات، أو
ليت شباب الساحات أنفسهم يصرفون هذه الطاقة وهذا الجهد لما هو خير وأبقى وأجدى
نفعا لأمتهم ومجتمعهم. كان الأجدر بهم أن تستفيدوا استفادة حقيقية مما أنعم به
الله عليهم من خصال الشجاعة والحماس والإخلاص والالتزام ويوظفوها فيما ينفع
العباد والبلاد، في خدمة الوطن والمواطنين. من يدخل إلى الساحات يدرك لأول وهلة
أن هؤلاء الشباب قد امتلكوا ناصية التعامل مع أحدث الأجهزة الإلكترونية
والبرامج الحاسوبية وأجادوا قوانين اللعبة الإعلامية وتقنيات التواصل الحديثة.
لكنهم طاقة مهدرة يصرفون وقتهم وجهدهم فيما لا ينفع ولا يفيد. إنه لمما يحز في
النفس ويبعث على الحزن والأسى أن يرى الإنسان شباب بلاده هكذا يهيمون في متاهات
لا تعود عليهم بأي نفع، بل ربما جلبت الضرر لهم ولبلادهم. هؤلاء الشباب يشكلون
رصيدا بشريا لا يستهان به ونسبة لا بأس بها من مخرجات التعليم التي كان المجتمع
في أمس الحاجة لها ويعقد عليها آمالا عراضا للبناء والتعمير.
حينما تدخل إلى هذه المواقع تجدها منظمة بشكل مدهش ومنسقة بصورة ملفتة للنظر
وتحتوي على كمٍّ هائلٍ من المقالات المطوّلة والمشاركات والمداخلات والتعليقات
وكلها قد رتّبت ونظمت بطريقة تدعو إلى الإعجاب والتعجّب. تُرى من الذي يقف وراء
هذا كله؟ من الذي يحرك هذه الخلايا النحليّة والأرتال النمليّة بهذا
الأوركستريشن المذهل؟ هذا من جانب، ومن الجانب الآخر علينا أن نتساءل وبجدية
أين يكمن الخلل في منظوماتنا الأسرية والاقتصادية وفي مدخلاتنا التعليمية
والإعلامية لكي تأتي بهذه المخرجات، ومن الذي أوصلنا إلى هذه الحال بحيث أصبح
العنف سمة من سمات خطابنا الإسلامي المعاصر، أين تقع المسؤولية وأين يكمن
العلاج وكيف نخرج من هذا النفق؟! لقد بدأنا نعترف تدريجيا بالمشكلة وندرك حجمها
لكننا حتى الآن لم نبدأ التشخيص، والعلاج الناجع لا يأتي إلا بعد التشخيص.
أنا
لا أقول بأن هذه الساحات هي الحاضنات التي تفرّخ الإرهاب، ولكن حتى لو لم تفعل
ذلك فإن ضررها يبقى مع ذلك فادحا. إنها تشوّش أذهان الشباب وتحرف مزاجهم وتسمم
أفكارهم ضد مجتمعهم وضد رموزه وتضيّع وقتهم وجهدهم في أنشطة ومهاترات لا طائل
من ورائها. تدخل إلى هذه المواقع تنشد خطابا دينيا عفيفا عليه مسحة الورع
والتقوى وإذا بك تفاجؤ ببذاءة اللغة وهبوط مستوى الخطاب. التوجه العام لهذه
الكتابات هو السب والقذف وتكفير الرموز الوطنية الفاعلة ورجال الدولة المخلصين
وفئات الشعب الوادعة المسالمة فقط لأنها لا تتبنّى نفس المنهج أو لا تنتمي إلى
نفس التيار. تبحث عن خطاب وطني معتدل ومتعقّل يلم الشمل ويرأب الصدع فلا تجد
إلا الشحناء والبغضاء والكراهية. التطرف والغلو هما السمتان الغالبتان على هذه
الساحات. وهم مولعون بتصنيف البشر إلى ملل ونحل ومذاهب كلها عندهم متهم
بالانحراف والضلال ما عدا من هم على شاكلتهم، فهذا سروري وهذا قادياني وهذا
جامي وهذا من المرجئة وهذا صوفي وهذا رافضي وهذا علماني. أي خطاب هذا؟! ومن
يقبل مثل هذه اللغة في هذا العصر؟! إنهم يتشاتمون ويتنابزون بالألقاب كما يفعل
الصبية الصغار في أزقة الحواري. إنهم بذلك يزرعون بذور الفنة ويسعون إلى تمزيق
النسيج الاجتماعي وخلخلة التلاحم الوطني وزعزعة الأمن والاستقرار.
نصيحتي لهؤلاء هي: ارفعوا مستوى خطابكم وتعاملكم مع معارضيكم لكي توصلوا
أصواتكم وقناعاتكم إلى الآخرين. عليكم بالتأدب والتلطف في مخاطبة الناس، شيء من
التهذيب لن يضيركم شيئا، بل ربما فتح لكم بعض القلوب والآذان وأكسبكم شيئا من
التقدير والاحترام. ثم لماذا تكتبون بأسماء مستعارة، هل تنقصكم الشجاعة، أم
أنكم تفتقرون إلى القناعة فيما تروجون له من أفكار؟ ينبغي لمن مثلكم يحث الناس
على الجهاد والتضحية أن يكون هو نفسه مثالا يحتذى في الشجاعة، ومن يدعو إلى
مذهب يعتقد اعتقادا راسخا بصحته ينبغي أن تتوفر لديه القناعة والحجة بحيث يحاور
الناس وجها لوجه. أي شخص يتحجب ويتخفّى وراء اسم مستعار لن يجد من يحترمه أو
يقتنع برأيه أو يأخذه مأخذ الجد. صدقوني لن يضيركم شيئا أن تجهروا بآرائكم
وتصرحوا بأسمائكم شريطة أن تلتزموا بالأسلوب السلمي والإنساني والحضاري في
الحوار ومقارعة الحجة بالحجة. أما أن تكشروا عن أنيابكم في وجوه كل من يعارضكم
فإن الناس لن يستسلموا لكم بل سوف يضطرون للدفاع عن أنفسهم وحماية أرواحهم.
ومثلما أن لديكم قناعاتكم فإن الآخرين أيضا لديهم قناعاتهم ومسلماتهم.
عليكم أن تدركوا أيها الشباب بأن الزمن يتغير ويتطور ولكل زمن لغته وأسلوبه في
التخاطب، وما كان مقبولا في الأزمنة الغابرة لم بعد مقبولا في العصر الحديث.
معركتنا في هذا العصر معركة حضارية سلاحها العلم والانفتاح والشمولية وليس
التقتيل وتقطيع الأوصال. عليكم أن تبتعدوا عن التكتم والتقوقع والانغلاق الفكري
والمذهبي وأن تبحثوا عن خطاب إنساني كوني شمولي يتمشى مع روح العصر ومزاج
المرحلة. العالم الآن يعيش عصر المكاشفة والشفافية والانفتاح على العالم وحوار
الحضارات. العالم الآن يبحث عن الأخوة ويتعطش إلى السلام. أين أنتم من هذا كله!
اقرأوا التاريخ واستخلصوا منه الدروس والعبر. لم تسجل كتب التاريخ جماعة سرية
واحدة اتخذت العنف سبيلا لتحقيق مآربها ونجحت فيما سعت لتحقيقه، من عصر
الحشاشين حتى النازيين إلى الفاشيين والتروتسكيين.
لا
أدري لماذا لا يستفيد شباب الساحات من أجواء الانفتاح الإعلامي والفكري الذي
تعيشه المملكة في هذه المرحلة ويطرحوا آراءهم في الهواء الطلق! كل ما هو مطلوب
منهم فقط هو احترام الرأي الآخر واحترام الشخص الآخر وعدم التعرض للخصوصيات وأن
لا ينحدروا في خطابهم إلى مستوى المهاترات والتجريح الشخصي والبحث في ملفات
الناس وكشف عورات العباد وكأنهم هيئة ادعاء وتحقيق. ألا يستمعون إلى ما يدور في
مجلس الشورى من نقاشات وخلافات في الرأي؟ ألم يستمعوا إلى جلسات مركز الحوار
الوطني؟ ألا يقرأون الصحف والمجلات اليومية وما يطرح فيها من آراء متباينة. ليس
اليوم كالأمس، فقد أصبح المجال الآن مفتوحا للنقاش والأخذ والرد. واذكروا نعمة
الله عليكم إذ حباكم بقيادة رؤوفة حليمة رحيمة تصفح عن الخطائين وتقبل توبة
التائبين.
إن
كنتم مثلنا تريدون الخير والرفاه والرفعة والعزة للوطن والمواطنين فهذه نقطة
أساسية نتفق نحن وإياكم عليها. هيا مدوا لنا أيديكم ولنعمل سوية لتحقيق هذه
الغاية النبيلة، وما يبقى بعد ذلك فمجرد تفاصيل وتخريجات واجتهادات يمكن، إذا
صفت النوايا وسلمت السرائر، أن نصل إلى تسوية بشأنها عن طريق النقاش الهادئ
والحوار المفتوح، كما هو الحال في الأمم المتحضرة، دون اللجوء إلى إطالة اللسان
أو مد اليد أو شهر السلاح. ولكن علينا وعليكم أن نقر بأن هذا الوطن ليس ملككم
أنتم لوحدكم ولو ملكنا نحن لوحدنا بل هو ملك لجميع أبنائه الذين ولدوا على أرضه
ويحملون هوّيته، كل منهم له حق فيه وعليه، ومن أهم هذه الحقوق العيش الحر
الكريم بأمن وسلام.
|