حياتنا السعودية باهظة التكاليف
سعد الصويان
كنت
في الأسبوع الماضي كتبت عن السعودة لأوضح أن مشاغل الفرد السعودي والتزاماته
الاجتماعية المتشعبة تجاه أهل بيته وأقاربه ومعارفه تحد من قدرته على تكريس
ثمان ساعات متواصلة للتركيز والعمل المنتج كل يوم. هذا على خلاف الرجل الأوربي،
مثلا، الذي تقف التزاماته عند حدود بيته وحدود عائلته النووية، والتي غالبا ما
تكون صغيرة الحجم مقارنة، ما شاء الله تبارك الله، بعوائلنا. أنت كسعودي مثقل
كاهلك بمشاغل "الحموله" و"الجماعه" و"المسايير"، بينما ذلك الرجل الأوربي، كما
يقول المثل "راسُه وراس شعيله" والباقي لا يهمه أمرهم، حتى امه "حلوة اللبن"
إلى عجّزت زتّه بدار العجزه. كما أن دولته كفته مؤونة التنقل والمواصلات بأن
وفرت له كل أنواع ووسائل النقل العام الفعالة وذات الكفاءة العالية بحيث لا
يلزمه اقتناء سيارة للتنقل، علاوة على أن الطرقات والأرصفة صُممت بطريقة تسمح
له بالذهاب إلى عمله لو شاء سيرا على الأقدام أو راكبا دراجة، خصوصا وأن جوهم
يساعد على ذلك. أي أنه لا يشغل باله، مثل ما تشغل بالك أنت، بالسيارة ومصاريفها
والسائق وغرفة السائق وكراج السيارة. كما أنه غير ملزم بالتكفل بتوصيل زوجته
وبناته للمدارس والمستشفيات والبنوك والمحاكم، إذ ليست له عليهن تلك الوصاية
التي تلزمه بالحضور معهن كمحرم أو الإنابة عنهن وكفالتهن في كل شأن من شؤونهن
العامة، فهن قيّمات على أنفسهن. ولأن المجتمعات الأخرى لا تعاني مثلما نعاني من
فوبيا وخوف وخجل من ارتياد الأماكن العامة فإنهم يعزمون أصدقائهم وأقربائهم في
المقاهي والمطاعم دون أن يعلنوا حالة الطوارئ المنزلية في كل مناسبة ويقضون
سحابة ذلك اليوم يترددون على البقالات لشراء المقاضي وما تبقى من النهار يقضونه
في الطبخ والنفخ. زبدة الكلام أنهم بسّطوا حياتهم إلى أبعد حد وتخلصوا من
الكثير من المشاغل التي تشتت الجهد والذهن وتكلف الكثير من الوقت والمال. ولا
أريد أن أزيد بالحديث عن أمور أخرى نشغل بها أنفسنا وتستنزف وقتنا وجهدنا ونعطل
أعمالنا لأن في فمي ماء.
ومع ذلك وعلى الرغم من أن الدول الأوربية وفرت لمواطنيها كل ما يحتاجون إليه
من ضروريات الحياة ورفاهية العيش وراحة البال إلا أن معدل الرواتب للموظفين
العاديين عندهم مع ذلك أعلى من رواتب الموظفين عندنا وتقع في حدود 02 ريالا
للساعة. والآن دعونا نتحدث بالتحديد وبتفاصيل أكثر عن تكلفة المعيشة عندنا.
وهذه لا تحددها فقط بيئتنا الاجتماعية، بل إن البيئة الطبيعية أيضا لها دخل في
ذلك، ولنبدأ بها. تحويل بيئتنا الصحراوية القاحلة إلى مكان صالح للسكنى مشروع
باهض التكاليف. إن شح الموارد المائية والبيئة الجافة تحد من إمكانيات الزراعة
عندنا وتجعل إنتاج الغذاء عملية مكلفة، مما يثقل كاهل الدولة بالإعانات ودعم
المزارعين، وهذا ينعكس سلبا على الناتج القومي والموازنة العامة. أضف إلى ذلك
أن هذه البيئة الطبيعية القاسية تقلل من قدرة الآلات والمواد المستخدمة في
البناء والمنشآت والمصانع والطرق على المقاومة، فهي تحتاج إلى مواصفات خاصة
وإلى تكاليف عالية لتشغيلها وصيانتها والحفاظ عليها. هذا عدا أثر الجو الحار في
رفع قيمة فواتير الماء والكهرباء.
لنفترض أنك شاب في مقتبل العمر حديث التخرج تبحث عن وظيفة. هذا يعني أنك مقبل
على إكمال دينك والاقتران بشريكة العمر. كم سيكلفك الجَهاز وحفلة الزواج، خصوصا
إن ركب أهل البنت رؤوسهم وأصروا على أن تكون حفلة الزفاف في فندق وعلى أن تجيب
طقّاقات؟! راتب سنتين؟ راتب ثلاث سنوات؟ ربما أكثر من ذلك بكثير. طيّب، وها أنت
أعرست. الآن يلزمك بناء عش الزوجية، أي البيت. والبيت السعودي فريد من نوعه.
إنه عمليا وفي الواقع ثلاثة بيوت أو أربعة في بيت: مجلس عربي، مجلس افرنجي،
مجلس رجال ، مجلس حريم، مجلس داخلي، مجلس خارجي، مقلط رجال، مقلط حريم، ملحق
خارجي، مطبخ خارجي، وهلم جرا. لقد حولنا بيوتنا إلى حصون وقلاع. الموظف العادي
عندنا يلزمه بيت لا تقل مساحته عن 700 متر، بينما بعض الوزراء في أوربا أو
اليابان يسكن الواحد منهم في شقة لا تزيد مساحتها عن 300 متر. ولأننا، كما قلت،
نتحاشى الأماكن العامة ولا نجد متنفسات خارج المنزل، فإننا مضطرون لأن نجهز
بيوتنا بكل أسباب الراحة والترويح، بما في ذلك الأحواش والحدائق وملاعب
الأطفال. والغالبية بعدما ينتهي من بناء البيت يبدأ التفكير ببناء الاستراحة،
وربما شقة في القاهرة أو بيروت، أو بعيدا حيثما تغرب الشمس.
ولا
تقف تكاليف الحياة السعودية عند الحدود التي ذكرناها، بل يضاف إليها أيضا ما
نتحلّى به من كرم حاتمي جعل منا أناسا مسرفين في الإنفاق ومبذرين مقارنة بغيرنا
من الشعوب، كما تشهد على ذلك موائدنا العامرة وملابس نسائنا الفاخرة وحليهن.
ناهيك عن عدم الترشيد والاقتصاد في استهلاكنا للثروات الوطنية من ماء وكهرباء
واللامبالاة وعدم الاكتراث فيما يتعلق بالمحافظة على المرافق العامة ومنشآت
الدولة.
الفرق بيننا وبين المجتمعات الرأسمالية في الغرب أنهم مجتمعات طبقية
stratified society:
من الطبقة البرجوازية إلى الطبقة الوسطى إلى الطبقة الكادحة، والانتماء إلى أي
من هذه الطبقات يحدده ثروة الفرد ومصادر دخله. وتبعا لانتماء الفرد الطبقي
ومصادر دخله يتحدد إنفاقه وأسلوب معيشته ويمد رجله قد لحافه ويصرف دخله وفق
ميزانية صارمة بحيث تتناسب المخرجات مع المدخلات. أما مجتمعنا فهو مجتمع
تراتيبي rank society
بمعنى أن ما يحدد موقع الفرد ووضعه الاجتماعي ونظرة الناس إليه وتقييمهم له هو
خلفيته الأسرية وارتباطاته العائلية، حتى لو كان صفر اليدين. فقد يكون فقيرا
معدما لكن الناس يتوقعون منه بحكم أنه ابن فلان من الناس وينتمي للحمولة
الفلانية أن ينفق بغير حساب وأن يكون كريما معطاء لا يرد سائل وأن يعيش عيشة
كلها بذل وإنفاق ودون مراعاة لظروفه المادية.
وهناك من الدارسين من يصنف ثقافتنا الشرقية بأنها ثقافة خجل
shame culture
بينما الثقافة الغربية ثقافة ذنب guilt culture.
الفرق بين الثقافتين وفق هذا التصنيف أن ثقافة الخجل يكون الوازع فيها والمحرك
للسلوك هو نظرة الآخرين للشخص وتقييمهم له والخجل الذي ينتابه إذا ما لم يكن
عند حسن ظنهم به "إلى ما جا على الهقوه". أما في ثقافة الذنب فإن الوازع الذي
يحرك السلوك هو الشعور الشخصي بالذنب وتأنيب الضمير في حالة التقصير في أداء
الواجب، أي أن الوازع فردي ذاتي يعود إلى الإحساس بالمسؤولية دون حساب لرأي
الآخرين مما يحرر الفرد إلى حد ما من الرضوخ الأعمى للضغوط الاجتماعية. وإذا
كان الوازع الذاتي هو الموجه الأساسي للسلوك فهذا يعني أنك لست مضطرا إلى أن
تتباهى أمام الآخرين وتحمّل نفسك ما لا تطيق وتصرف فوق مستوى دخلك لكي تظهر
أمام الناس بالمظهر اللائق. ولعل القارئ يذكر ذلك المثل الذي يوصيك بأن تخرج
للناس لابسا حلة فاخرة حتى ولو كنت جائعا معدتك خاوية، لأن الناس سوف يرون ما
تلبس على ظهرك لكنهم لن يرو ما في داخل جوفك.
هذا
ما عنيته عندما قلت في مقالتي السابقة أن السعودة لا تطبق في فراغ وإنما تطبق
في سياق اجتماعي ومركّب ثقافي من القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم
والممارسات التي تتداخل في شبكة من العلاقات المتنوعة التي تتفاعل مع بعضها
البعض. ولعلي بالغت بعض الشيء في عرضي لحالتنا الاجتماعية، لكن هدفي من تضخيم
الأمور إلى حد ما هو لأبين كيف أنه من الصعب أن تنجح السعودة إذا تركت بقية
مكونات البناء الاجتماعي وعناصر النسق الثقافي على حالها. نجاح برنامج السعودة
يتطلب إعادة ترتيب منظومة القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم والممارسات التي
تحكم السلوكيات وتوجّه التفكير. إنها مهمة تحويل مجتمع ريفي قبلي تعلو فيه
اعتبارات تراتبية السلم الاجتماعي على اعتبارات ترابية السلم الوظيفي
والاعتبارات الاجتماعية على الاعتبارات الاقتصادية.
|