الدولة والقبيلة: تعقيب على
ما سبق
سعد الصويان
وصلتني ردود فعل ساخنة حول مقال
سبق لي كتابته في هذه الزاوية عن الدولة والقبيلة. هذا حدى بي إلى أن أعيد
قراءة المقال مرة أخرى لأتلمس مواقع الخلل لعلي أجد الموطئ الذي زلت به القدم.
وبعد أن قلبت الأمر على وجهه وقفاه خلصت إلى نتيجتين: النتيجة الأولى أنني
تجاهلت القاعدة الذهبية التي تقول لكل مقام مقال، وهذه قاعدة تنطبق على المقال
المحكي مثلما تنطبق على المقال المكتوب. فالأفكار والآراء العلمية القابلة
للنشر في مجلة علمية متخصصة محدودة التداول غير تلك التي تُبثّ في جريدة يومية
سيارة يقرؤها عامة الناس. فالمختصون من الباحثين والأكاديمين لديهم من سعة
الأفق ورحابة الصدر ما يؤهلهم لتقبل مختلف الآراء والفرضيات ومناقشة الأمور
بهدوء علمي وفهمها على وجهها الصحيح الذي قُصدت له. أما عامة الناس الذين
يستعجلون القراءة ويتسرعون في إصدار الأحكام بدون روية فإن أبسط الأمور تثيرهم
ولا يتقبلون الطرح الموضوعي الرصين. وأكثر ما يصدق هذا القول على القضايا التي
تتناول الشأن الثقافي والاجتماعي ومسائل التاريخ. ولذلك فهم بعض القراء من
مقالتي أنني أشكك في ولاء القبيلة للدولة وانتقص من دورها في ترسيخ دعائم الحكم
وتوطيد أركان الدولة، علما بأن تاريخي يشهد لي بأنني من أكثر المنافحين عن حقوق
البادية وجل كتاباتي تنصب حول تصحيح الصورة النمطية الخاطئة التي يحملها البعض
في أذهانهم عن البدو، وكنت دائما أؤكد على الدور الإيجابي لأبناء القبائل في
هذا المجتمع خاصة وفي مجتمعات الخليج عامة وأؤكد على ارتباطنا جمعيا، شئنا أم
أبينا، بثقافة الصحراء وقيم البادية. بل لقد اتهمني البعض بالقبلية والتحيز
للبداوة والدعوة للعامية بحكم اهتمامي الأكاديمي بأدب البادية وتاريخها
وثقافتها.
النتيجة الثانية التي خرجت بها
هو أنني في تناولي لعلاقة القبيلة بالدولة أخطأت في الإكثار من إيراد الأمثلة
الحية المعاصرة فبدى وكأني قصدت من المقال برمته الحديث عن الوضع الراهن، بينما
كنت في الواقع أتحدث عن إشكالية أزلية وجدت منذ أن وجد التاريخ الإنساني وفي
مختلف الأزمنة والأمكنة. إشكالية العلاقة بين البدو والحضر تعود إلى أيام قابيل
وهابيل، كما أن إشكالية العلاقة بين الدولة والقبيلة تبدأ منذ نشوء المدنيات
والدول في بلاد الرافدين وحوض النيل، بدءا من السومريين والبابليين والآشوريين.
ومعلوم أن الجزيرة العربية تمر عليها دورات من الخصب ودورات من الجفاف. في
أعوام الخصب يتكاثر الناس ويحدث ما يشبه الانفجار السكاني. ويتلو ذلك سنين عجاف
يهلك فيها الحرث والضرع فتلفظ الجزيرة بسكانها على شكل موجات متتابعة من
الغزوات والهجرات التي تتدافع باتجاه الهلال الخصيب، وآخرها الهجرات التي قامت
بها قبائل شمر وعنزة إلى ما يسمونها "ديرة الحِبّان (أي الحبوب)" أو "ديرة
الريف والرغيف" أو "دويد العسل" (دويد تصغير ديد أي نهد أو ضرع، أي الضرع الذي
يدر العسل، لاحظ العلاقة بين هذه النعوت وما ورد في الكتاب المقدس من أن تلك
البلاد كانت بلاد اللبن والعسل
land of milk and honey).
لذا كان من الطبيعي أن يسود الصراع علاقة حواضر ومدنيات الهلال الخصيب مع
الموجات المتعاقبة من الغزاة والمهاجرين المندفعة من قلب الجزيرة العربية.
وكثيرا ما اضطر ملوك الآشوريين والبابليين في عصور ما قبل التاريخ إلى القيام
بحملات تأديبية ضد البدو، كما حدث في عام 691 ق. م. حينما قام سينَحاريب بحملة
تأديبية ضد الملكة العربية تعلحونو أجبرها على الفرار من أمامه والالتجاء إلى
دومة الجندل. أما الملك البابلي نابونيدوس فقد توغل في حملاته التأديبية ضد
الأعراب والتي استغرقت عشر سنوات (552-543 ق. م.) حتى وصل إلى دومة الجندل
(أدوماتو) وتيما والعلا (ديدان) والحائط (فدك) وخيبر ويثرب.
ولعل القارئ يذكر ما حدث لقبائل
بني هلال حينما هاجرت إلى مصر والتوتر الذي ساد علاقتهم مع الدولة الفاطمية
آنذاك، ثم لما زحفوا إلى شمال أفريقيا حدث لهم نفس الشيء مع دول شمال أفريقيا
في تونس والمغرب. وبناء على تلك الأحداث وما نتج عنها من صراعات صور ابن خلدون
البداوة العربية التي تقوم على رعي الإبل وكأنها مرحلة بدائية مضادة للحضارة،
ولا تزال الثقافة العربية تتبنى هذا النموذج الخلدوني المنحاز ضد البداوة
بالرغم من أن الدراسات الأنثروبولوجية والأركيولوجية الحديثة لا تدعم هذا
الموقف. يرى ابن خلدون في البداوة نقيضا للحضارة وضدا لها. طبيعة الحياة
البدوية، كما يراها ابن خلدون، منافية للعمران ومناقضة له لأن البدو، كما يقول:
"أمة وحشية باستحكام عوائد
التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خُلُقا وجِبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من
الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران
ومناقضة له فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون
الذي به العمران ومنافٍ له. . . طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل
العمران، هذا في حالهم على العموم. وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن
رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما
امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه. فإذا تم اقتدارهم على ذلك
بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران. وأيضا فلأنهم
يكلّفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قِسطا
من الأجر والثمن والأعمال، كما سنذكره، هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت
الأعمال وصارت مجانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل
وابْذَعَرّ الساكن وفسد العمران. وأيضا فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر
الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض، إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس
نهبا أو غرامة. فإذا توصّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد
أحوالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد. وربما فرضوا العقوبات
في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم.
وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرض لها. بل يكون ذلك زائدا فيها
لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض. فتبقى الرعايا في مَلَكَتِهم كأنها فوضى
دون حكمٍ. والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران".
لقد سيطر هذا النموذج الخلدوني
لثنائية البدو والحضر على الثقافة العربية وتبنته كموقف رسمي لها وأصبح هو
النموذج الشائع والسائد. ورغم تطور الدراسات الأنثروبولوجية في العصور الحديثة
لا يزال هناك من يرى أن البداوة بمفهومها العربي، والتي تشير إلى رعاة الإبل
الذين ينتجعون الصحراء بحثا عن المراعي لقطعانهم، مرادفة للبدائية، تلك المرحلة
المتوحشة التي تمثل البدايات الأولى لتطور الجنس البشري، وأنها أتت بعد مرحلة
الجمع والصيد وانبثقت مباشرة منها كامتداد طبيعي لها. ومما كرس هذا النموذج
أولوية البداوة وسيادة مفاهيمها وقيمها وتصوراتها في الثقافة العربية وما تعكسه
مفردات اللغة العربية من تجذر في البيئة الصحراوية والحياة الرعوية. ولقد فسر
البعض هذه الأولوية الثقافية واللغوية على أنها أولوية تاريخية وأن البداوة
سابقة للحضارة. وربما ساهم في شيوع هذا الفهم الخاطئ العلاقة اللفظية، ولا أقول
الاشتقاقية، بين البدو والبدائية وأن البدو، مثلهم مثل الجماعات البدائية،
يعيشون حياة تنقل غير مستقرة. وكنت دائما أحاول في كتاباتي أن أصحح هذا المفهوم
المجحف وأنادي بدراسة البداوة من أجل فهمها على حقيقتها وتصحيح مفاهيمنا عنها،
وكانت آخر مقالة لي في هذا الشأن هي المقالة التي نشرتها الاقتصادية في عددها
الصادر يوم الثلاثاء الموافق 25 أكتوبر تحت عنوان "البدو والهنود الحمر".
ولست بحاجة إلى إيراد قائمة
بالندوات والمؤتمرات التي عقدت وتعقد في الشرق والغرب لمناقشة البداوة وعلاقة
القبيلة بالدولة ولا إلى تعداد الكتب والمقالات والبحوث التي نشرت بهذا الشأن،
فالقائمة البيبليوغرافية طويلة جدا. فمنذ بضعة أشهر دعيت لإلقاء ورقة في مؤتمر
عقدته إحدى الجامعات الألمانية عن علاقة الدولة بالقبيلة وعلاقة البدو بالحضر
والفلاحين، ولقد أدهشني كثرة المشاركين من أساتذة الجامعات الأوربية والأمريكية
في ذلك المؤتمر والأبحاث التي قدموها فيه. والأدهى من ذلك أن جامعة تل أبيب
لديها برامج ومنح دراسية لدراسة البداوة ومختلف جوانب الحياة والأعراف القبلية.
هذا بينما نحن الأولى بالقيام بهذه المهمة، لكن الحساسيات والحسابات تكبلنا
وتعيق مسيرة البحث عندنا في هذا الموضوع ومواضيع أخرى تمس تاريخنا وحياتنا
الاجتماعية ومسيرتنا الحضارية. لا بد لنا من التعرف على تاريخنا الاجتماعي
وهويتنا الثقافية من كل الجوانب ومن منظار علمي وموضوعي، بعيدا عن الأهواء
والعواطف التي تشوه التاريخ وتقف حاجزا أمام الفهم السليم. البحث في مسائل
التاريخ وقضايا المجتمع لا يقصد منه التجريح أو الإساءة إلى أحد وإنما هو
محاولة جادة ومخلصة للغوص من السطح إلى الأعماق ومن القشور إلى اللب لاستكشاف
آليات ودوافع حركة التاريخ وصيرورة المجتمع. والمجتمع مثل الجسد، لا بد من
تشريحه من أجل تشخيصه وفحص مكوناته من أجل التعرف على وظائف الأعضاء فيه.
|