نحو استراتيجية ثقافية
سعد الصويان
الثقافة التي نتحدث عنها في هذا السياق لا تنحصر في التعليم
المدرسي الذي يتلقاه الطلاب في مراحل التعليم المختلفة· مفهوم الثقافة التي
نتحدث عنها هنا أعم وأشمل من ذلك بكثير· إنها قلب الأمة النابض وروحها المعبرة
وعبقريتها الخلاقة· أنها مجمل نتاج المجتمع البشري، ببعديه المادي والمعنوي،
ومجموع السمات المميزة للإنسان بحكم إنسانيته وبحكم تكليف الخالق له جل وعلا
وجعله خليفة له على هذه الأرض ليعمرها ويسخر مواردها ويجني خيراتها ويستخرج
كنوزها· الثقافة ليست وليدة المدارس إذ لازمت الإنسان منذ درج على وجه
المعمورة· ولكل أمة من الأمم ثقافتها التي تشمل حصيلتها المتصلة من المعارف
والقيم والتقاليد المستقرة فيها وطرائق التفكير والتعبير ومظاهر الإبداع الفني
والتقني وطرز الحياة وأنماط السلوك· كما تشمل الثقافة تطلعات الإنسان وطموحاته
المستقبلية ومثله العليا ومحاولاته المستمرة لتحديد أهدافه وإعادة النظر في
منجزاته والبحث الدائب عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه وإبداع كل ما يتفوق به
على ذاته· قل أن الثقافة هي تراث الأمة الروحي والمادي الذي يشكل سماتها
الحضارية ومسيرتها التاريخية عبر العصور والتي تتجدد وتعيد تشكيل ذاتها في إطار
خصائصها بصورة مستمرة لأنها في حركة داخلية لا تنقطع يغذيها المجتمع بما يختزنه
من موروثات عريقة وقدرات إبداعية تخلق المستقبل من أضلاع الماضي·
وكلما ارتقى الإنسان درجات على سلم التطور الحضاري وسار خطوات
في طريق التقدم العمراني كلما زادت ثقافته تشعباً وتعقيداً· وفي عالمنا المعاصر
تعددت مصادر الثقافة وتفرعت قضاياها وتباينت مظاهرها، المادية منها والقولية
والروحية والمعنوية· وأصبحت لكل أمة ثقافة عامة شاملة تنضوي تحتها ثقافات فرعية
محلية لكل منها وسائلها التي تعبر بها عن تميزها وخصوصيتها· ثم هناك ثقافة
كتابية عالمة تتوارى خلفها ثقافات شفاهية شعبية يتناقلها عامة الناس
ويتوارثونها عبر الأجيال· وكلما تداخلت عمليات التأثير والتأثر وتشابكت قنوات
الأخذ والعطاء كلما علت أصوات الرفض أو القبول وكلما احتد الجدل بين أنصار
القديم وأنصار الجديد· ومع ازدياد التنازع بين الطارف والتليد وتفاقم الصراع
بين الدخيل والأصيل تزداد خارطة الثقافة تعقيداً ويتعذر استقرار البوصلة على
اتجاه واضح محدد· وهكذا تصبح مركبة الثقافة في مهب رياح فكرية عاصفة عاتية
يحتاج الإبحار فيها إلى فريق متعاون من الملاحين المهرة الذين تتوفر فيهم
الكفاءات الضرورية بما في ذلك استيعاب معطيات العصر والإلمام بقضايا الأمة
والقدرة على تصور طموحات الأجيال ورسم خطط المستقبل· كما لا بد أن يتوفر في
أعضاء هذا الفريق من نفاذ البصيرة وبعد النظر وسعة الأفق مما يساعدهم على شق
الطريق والإبحار نحو بر الأمان·
يمر عالمنا المعاصر بتحولات جذرية ومنعطفات خطيرة تشكل في
جوهرها ثورة ثقافية بعيدة الآثار عميقة النتائج· الانفجار المعرفي الذي نشاهده
اليوم وضع تحت أيدي الأمم المتقدمة ورهن إشارتها مخزوناً هائلاً من المعارف
والمعلومات يختلف كماً وكيفاً عما كانت عليه الحال قبل القرن الواحد والعشرين·
ومجتمع الغد مليء بالمتغيرات والتحديات المعرفية التي تتراكم بازدياد مطرد
وتنوع هائل وتعقد لا ينقطع· وهكذا تستمر الفجوة العميقة، بل الهوة السحيقة بين
منجزات التقنية الحديثة وبين تقاليد الثقافات المحافظة· ومما يعمق هذه الهوة
ويوسعها ما توصلت إليه الأمم المتحضرة من ثورة في الاتصالات ألغت المسافات
واخترقت أجواء الثقافة بفضل ما تتميز به من سرعة ضوئية ووفرة لا تحد من
المعلومات· وهذا كله وضع المستقبل في يد الثقافات الأقوى التي تملك وسائل
الاتصال الحديثة لتسخرها في نشر معارفها وثقافتها وقيمها· ومن هنا ندرك أبعاد
الغزو التكنولوجي والتبعية الفكرية والهيمنة الثقافية التي هي أبعد أثراً وأشد
خطراً وأروع فتكاً من الغزو العسكري· هذا التحدي الثقافي الشرس علينا مواجهته
والتصدي له بكل ما لدينا من إمكانيات· وحتى نربح هذه المعركة يلزم البدء عاجلاً
برسم خطط واستراتيجيات ثقافية حسب مناهج عملية مدروسة بمنتهى الدقة والعناية·
وهذا يتطلب منا حصر جميع مواردنا وإمكانياتنا الثقافية، المادية منها والروحية،
الرسمية والشعبية، القديمة والمحدثة· لا نفرط في شيء، مهما دق شأنه أو جل· لا
بد لنا من فحص كل جانب من جوانب ثقافتنا وكل منحى من مناحي حياتنا وإخضاعه
للفحص الدقيق والمعالجة الموضوعية· وعلينا أن نحشد جميع ما هو متوفر لدينا من
كفاءات ومهارات علمية وفنية، كل في مجاله وحسب امكاناته· وبذا يتحول النشاز
الثقافي والضجيج إلى إيقاع منتظم ونغم منساب، إلى نهر من العطاء المتصل تجري في
تياره قوة الدفع المحركة·
إنه لمما يعاب على أي أمة أن تتعثر التنمية الثقافية فيها وتقصر
عن مواكبة التنمية المادية المحسوسة· ولا قيمة للمنجزات المادية إذا لم ترتكز
على واقع ثقافي صلب متماسك تستمد منه معانيها ومضامينها ويجعل منها رمزاً
حضارياً تفتخر به أجيال الغد وتستند إليه في تعزيز هويتها وتكريس قيمها الروحية
والإنسانية· ومهما عصفت رياح الزمن بالمنجزات المادية ومهما طمستها عوامل
التغير والتحول فإن المنجزات الثقافية بما تنطوي عليه من مضامين فكرية وفنية
ووجدانية هي المعالم التي تبقى شواهد حية في مسيرة الأمة وتاريخها الحضاري·
التنمية الثقافية هي الركن الأساسي في أي تنمية اجتماعية أو
اقتصادية· وتتجلى أزمة الثقافة في مجتمعاتنا في تخلف البنى الحضارية عن معطيات
العصر وقصورها عن التكيف والتلاؤم معها وفي عجز وسائلها عن مواجهة أخطار القوى
الخارجية على اختلاف مشاربها وتشتت سبلها· والاستقلال السياسي والاقتصادي يبقى
عرضة للأخطار ما لم يدعمه استقلال ثقافي وحصانة فكرية· وهذا يتطلب منا سبر
أغوار التحديات المعرفية والتقنية والاتصالية المعاصرة· ترك الأمور للظروف
تسيرها بشكل عشوائي مرتجل يشكل تهديداً حقيقياً لهويتنا الحضارية ويجعلنا نهباً
للقوى الثقافية العالمية المسيطرة· إن ذلك مما يفسح الطريق لفرض النموذج
الثقافي المتقدم تقنياً وبالتالي سلب الهوية المحلية مقوماتها مما يؤدي إلى
توقفها عن الإبداع والتطور وينتهي بالتالي إلى وأدها وتدميرها· وهكذا تنتهي
مجتمعاتنا إلى مجرد أفواه وعقول مستهلكة لا منتجة ومنفعلة لا فاعلة·
|