لعينيك ياوطني
ملاطفات التخاطب
سعد الصويان
كنت أجلس في سن الطفولة إلى عجوز رسمت سنين العمر آثارها شخوطا
على وجهها المتغضن وتخطفت أسنانها فلم يبق منها إلا ناب يتيم يهتز لكل لفظة
تتفوه بها. ما يملأ قلبها الكبير من ورع وسكينة وما يشيعه من عطف وحنان كان
يحيل صورتها في عينيّ الصغيرتين إلى مخلوق في غاية البهاء والجمال. أستمع لها
تنثر در الكلام، عبارات وألفاظ يسجد لها هوميروس ويدونها الأصمعي. حديثها عذب
وكلماتها رقيقة ناعمة كالرذاذ. مهما كان الحدث ومهما كان الظرف ستجد دوما لديها
صيغا لفظية جاهزة وقوالب قولية مصقولة سُكت ونحتت لتتلاءم مع المناسبة والسياق،
من الولادة إلى الزواج إلى المرض إلى العزاء، أي شيء يخطر على بالك. إن لبسْت
ثوبا جديدا قالت لك: عساك تبليه بالعافيه. إن عزمت على السفر قالت: ما تغيب الا
وتجي سالم، الله يطوي سفركم وياقا خطركم. إن قدمت لها خدمة قالت: عساي ما اذوق
حزنك، الله يعدّي عنك السيّه والحيّه، عساك عينٍ جاريه.، الله لا يهينك. وعند
زيارة المريض: ما ترى باس، الله يطلق عوقك، الله لا يوريك مكروه، عسى ما يعقبنا
عليك الا العافيه، شِدّه وتزول. ولكن ياويلك إن حدت عن الصواب أو أثرت حفيظتها
لأي سبب. سوف تتحول شآبيب كلامها العذب إلى صواعق محرقة كتلك التي يقذف بها
زيوس من قمم الأولمبوس: عساك الدود والعقارب السود، يامل الساحق والماحق والبلا
المتلاحق، جعلك حسير كسير إن قعدت تصيح وان وقفت تطيح.
يجلس زوجها في المشراق متيبّسا كجذع الأثلة متثبّتا كالحِبس،
متلفعا بعبائته تحفّه السكينة والوقار، تخاله أحد فلاسفة الرواق أو تمثالُ
نبيلٍ روماني فرغ النحات منه للتو وسمّره في مكانه، رصينا لا يتضعضع ولا تزعزعه
نوائب الدهر . كد وكدح حتى استحال كفه سيان صافحته أو لامست جدارا طينيا في
حارة قديمة. الجوع يمس بطنه دون أن يمس نبله وكرامته. أمي التعليم لكنه حضاري
التعامل والسلوك. تتساقط ألفاظه الرزينة الهادئة من شفتيه بحشرجة مبحوحة واحدة
تلو الأخرى على وقع حبات السبحة التي تكر بين أصابعه. إذا حدّثك حدّثك بمنتهى
التهذيب واللباقة، يتحاشى أن يتلفظ بكلمة عوراء، لكن لو اضطره سياق الحديث لذلك
فلديه مخزون من العبارات المرهمية التي يلطّف بها وقع الألفاظ النابية أو التي
تشير إلى كائنات نجسة أو محتقرة مثل: مْحَشوم، عز مقامك، لكم الكرامه، لا ولا
لك لوا. وإن وردت كلمة تشير إلى وساخة أو قذارة مثل كلمة "تبن" أو "طين" أو
"سماد" سارع بالقول: بوجه العدو. ولا يفتأ يردد أثناء الحديث: طال عمرك، الله
يسلمك، بارك الله بايامك. وإن اضطر لمقاطعتك في الحديث اعتذر بقوله: وكلامك على
متمّه، ولا هوب قطع لواردْك. وإن اضطر لمخالفتك الرأي يعتذر قائلا: وانت ابخص،
وغيرك المعَـلّم. وإن وجه الخطاب لواحد معين من الحاضرين أردف قائلا للبقية:
ولا هوب مهونة للحاضرين. وإن امتدح شخصا غائبا قائلا عنه: فلان يسوى الرجال ولا
يسوونه، يْذَرّ على الجرح ويبرى، فإنه لا بد أن يجامل الحضور ويطيّب خواطرهم
بالقول: ولا افضّله على من عندي، شروى الحضور. وأحيانا يضطر لتحديد شخصية من
يتحدث عنه بالإشارة إلى عيب خلقي يُعرف به وهنا يردف بالقول: ولا اعيّره، خلق
الله حسن. وإن حدثك عن شخص حصل له مكروه أردف قائلا: عسى ما لك فالُه.
وكل عبارة من عبارات "الشايب" أو "العجوز" لها رد مهذب مناسب
عند المستمعين "شرواك الطيب"، "ولا عليك زود"، "لا هنت"، "كفُو". هذه مجرد
لقطات سريعة قصدت بها التمثيل لا التوثيق والاستدلال لا الاستقصاء لما أسميه
"ملاطفات الحديث والتخاطب" التي كان يجيدها اباؤنا وأجدادنا "الأميين". إذا
جلست إلى واحد من هؤلاء يدهشك بخطابه المهذب ولباقته في الحديث معك ومناسبة
ألفاظه لمقتضى الحال، جنتلمان حقيقي بمعنى الكلمة، إلا أنه لا يلبس قبّعة
ليرفعها تحية لك، ولكن لو قلت أو فعلت شيئا يستحق التحية والإعجاب أمسك غترته
وطوّح بها في الأرض أو رماها في النار وصاح "أدوسَها لك". والشيء الآخر المدهش
قدرتهم على نسج الكلام وعلى السرد المسترسل بعبارات بليغة متماسكة ومشاهد مرتبة
بتسلسل مذهل. كانت الموهبة الكلامية بالنسبة لهم من مكملات الرجولة ومن لا
يملكها يسمونه "دحش" أو "فِدامِه". أو "كْمِخِه" أو "دعْرِمّه". ولا معنى عندهم
لأي عمل مهما كان بطوليا أو نبيلا أو أريحيا ما لم تصاحبه عبارات تتناسب مع
الحدث. أذكر أنني في طفولتي إذا عدنا من وليمة لا يسألنا أهلنا عن الطعام الذي
قدمه لنا المضيف وإنما عن "التهَلات"، أي كلمات الترحيب التي تفوّه بها وهو
يدعونا للقيام إلى المائدة، مثل "الله يحيّيكم على قل الكلافه، حضرتوا ولا حضر
واجبكم، عذرنا البخل والا حقّكم اكثر، منا العذر ومنكم السموحه، القدر بالصدور
ما هو بالقدور، الدعوى على طبّة المحل، جعل مهابيطه العافيه". هذه ليست مجاملات
زائفة ولا
PR
يقصد من ورائها مغنم أو التوقيع على صفقة، إنها كلمات صادقة ونابعة من القلب
تعبر عن فرح وابتهاج حقيقي بممارسة الإنسان لإنسانيته وتأكيده عليها من خلال
العطاء والكرم.
صرنا نتباكى كثيرا هذه الأيام على أشياء الماضي الجميلة التي
ضاعت منا في زحام الحاضر وسباق التحضر. ولكن لا شيء أجمل ولا أثمن من النبل
الفطري الخالي من الرتوش ولا من العفوية والتلقائية وطلاقة اللسان. لماذا فقد
جيلنا كل ذلك وبلعنا ألستنا وفقدنا القدرة على الكلام الموقّع الجميل! لم يعد
في العمود متسعا للحديث عن طقوس المجالس عندهم وآداب الحديث والمنادمة، أو ما
يسمونه "سموت الرجال" (من "سَمْت")، ولكن دونك هذه الأبيات للشيخ محمد بن مسعر
القحطاني:
والله ما استانس
ويِنْساح بالي
إلا إلى ما قام يَـزْجِر فَحَلها
واشوف
حيران النياق الغوالي
تَـدْرِج ونار الربع يوضي شَعَلها
في مجلسٍ والربع ربعٍ
رْجال
والسالفه لى جات ما احدٍ شِقَلها
ترى
السوالف ياذْهان الرجال
تَـسْمِج الى عِرضَت على غير اهلها
|