الهوية الوطنية بين الدولة والقبيلة
سعد الصويان
أولا:
توطئة
تأتي التحيزات وسوء الفهم ضد القبيلة من عدة جهات. فالقبيلة في
أساسها ظاهرة بدوية، لذلك تقوم ضدها تحيزات الحضر الموروثة من خلال
صراعهم مع البدو عبر القرون، وهناك التحيزات الدينية التي يمكن
اختزالها في مقولة "الدين حضري". أضف إلى ذلك صراع الدولة التقليدي
مع القبائل في محاولتها فرض السيطرة عليهم. وفي العقود الأخيرة جاء
المد القومي والحزبي والفكر السياسي النخبوي ليضيف مقولاته
المتحيزة ضد كل مظاهر البداوة، بما فيها التنظيم القبلي. هذه
التحيزات المتراكمة عبر القرون من هذه الجهات المتعددة تظافرت في
رسم صورة سلبية للتنظيم القبلي وحولت الموضوع إلى قضية مثقلة
بالأيديولوجيات التي استبعدت وغطت على النظرة الحيادية إلى النظام
القبلي في سياقه التاريخي وفهمه على حقيقته كمرحلة من مراحل التطور
الثقافي والاجتماعي ووسيلة
من وسائل التكيف البيئي. وصارت الإنتلجينسيا العربية تنظر إلى
القبيلة على أنها مصدر لكل ما تعاني منه الأمة العربية من مظاهر
الأمية والجهل والتخلف والتشرذم السياسي. فلقد وصل الأمر إلى أن
أصبح التهجم على القيم والممارسات القبلية إشارة يصدرها كل من يريد
أن يثبت انتماءه إلى طائفة المثقفين والمفكرين العصريين.
وبطبيعة الحال، فأنا لا أدعو في هذه الورقة إلى القبلية أو استمرار
التنظيم القبلي لأن مسيرة التاريخ لا تتوقف وظهور الدولة، شئنا أم
أبينا، حتمية تاريخية لا مفر منها. كل ما أطمح إليه فقط هو تصحيح
بعض المفاهيم والتنبيه إلى عدم الانسياق بدون وعي وراء تحيزات
خاطئة وغير مبررة، قد يكون البعض منها قُصِد منه الإساءة والتحقير
لنا من خلال الإساءة إلى التنظيم القبلي الذي يشكل جزءا أساسيا من
هويتنا الوطنية ومن إرثنا التاريخي والاجتماعي والذي لو تفحصناه
جيدا لوجدنا فيه من الإيجابيات ما يمكن تطويره والاستفادة منه بما
يتمشى مع متطلبات العصر الحاضر. من ضمن الأسئلة التي تطرحها هذه
الورقة وتحاول البحث لها عن إجابة هي: ما هي الوظائف والأدوار التي
يمكن أن تضطلع بها القبيلة كأحد مكونات المجتمع المدني في حياتنا
المعاصرة، وما هي الأسباب والدوافع التي أدت إلى إحياء العصبيات
القبلية في الآونة الأخيرة. كما سوف أحاول تلمس ما يتضمنه النظام
القبلي من بذور الممارسات الديموقراطية والفصل بين الدين والدولة
وكذلك الفصل بين السلطات في النظام القبلي.
ثانيا: الغرس والذود
الحديث عن الهوية القبلية يقودنا قسرا إلى الحديث عن البداوة وعن
الحياة البدوية، والحديث عن البداوة يقودنا إلى الحديث عن علاقة
البدو والحضر في الجزيرة العربية. ثنائية البدو والحضر من الحقائق
الأساسية في تاريخنا الاجتماعي والسياسي. ومما يؤكد على حضور هذه
الثنائية كحقيقة ذهنية في ثقافة أهل الجزيرة العربية هو ما يحمله
بدوها وحضرها كل منهما تجاه الآخر من مشاعر غامضة تتراوح بين
الإعجاب والازدراء ومن صور نمطية متضادة تجمع بين الخساسة والنبل.
يحمل أهل الجزيرة العربية في أذهانهم تصورا نظريا لطبيعة مجتمعهم
يصنّف هذا المجتمع إلى شقين: بدو وحضر، كل منهما له خصائص تميزه عن
الآخر وطريقة مغايرة في الحياة. ويتضح لنا التمايز الذي يحمله أهل
الجزيرة العربية في أذهانهم بين البدو والحضر من خلال الاطلاع على
أدبهم وشعرهم، الجاهلي والنبطي. البداوة والحضارة، كما يصورهما هذا
الأدب، هما النمطان النموذجيان للحياة اللذان يحتلان بؤرة الشعور
لدى الإنسان في الجزيرة العربية، وهما القطبان الأساسيان اللذان
يحدان رؤيته للكون من حوله. استمع إلى تشخيص بديوي الوقداني الذي
ينتمي لبيئة حضرية، استمع لتشخيصه للبدو حيث يقول:
البدو ياباغٍ من البدو ثابه
البدو لو شافت معك شي تنهبك
لى جو على العيشه سواة الذيابه
عَدّت مخالبهم عن الزاد مخلبك
احذر تِطَرّف ياخذونك نْهابه
والا تخاويهم يحتّون مزهبك
كِبْ البدو ياجعلهم للذهابه
حيث ان مذاهبهم تخالف لمذهبك
يتجلى تمايز البدو والحضر في الرموز التي يتخذها كل منهما كمحددات
لهويته. فالبدو، في النموذج الخلدوني، هم أهل الوبر، أي بيوت الشعر
المتنقلة، والحضر هم أهل المدر، أي بيوت الطين الثابتة. أما في
النموذج المحلي المعاصر فإن رمز البداوة ومصدر عزة البدوي هي
الإبل، بما تمثله من حركية واستقلال عن سلطة أي حاكم أو دولة. أما
رمز الحضارة الزراعية ومصدر عزة الحضري فهي النخلة، بما تمثله من
استقرار ورسوخ واستمرارية في العطاء. النخلة والبعير كلاهما كائنان
صحراويان، فالنخلة مثلها مثل البعير تماما في قدرتها على التكيف مع
مناخ الصحراء. ولعلنا لا نبعد من الصواب إذا قلنا أن النخلة
والبعير كلاهما رمز صحراوي؛ أحدهما يرمز للرعي والترحال في البوادي
والآخر يرمز للفلاحة والاستقرار في واحات الصحراء. هذان الرمزان،
الذود والغرس، يختزلان الفروق بين البداوة والحضارة في النموذج
المحلي ويحصرانها في التخصص الإنتاجي الذي يتمثل إما برعي الإبل أو
غرس النخيل. هنا يتحول الفرق بين البداوة والحضارة إلى مجرد اختلاف
في وسائل الإنتاج وإلى شكل من أشكال التخصص المهني وتوزيع العمل،
فهناك أعمال تتطلب الاستقرار وهناك أعمال تتطلب الترحال. التمايز
الإنتاجي بين البدو والحضر ليس إلا توزيع عمل يقصد منه تحقيق
الاستفادة القصوى من إيكولوجيا الصحراء، بما يشمله ذلك من معطيات
المناخ والبيئة الطبيعية.
لكن ما يفصل البدو عن الحضر من تخصص في العمليات الإنتاجية هو الذي
يجمع بينهم في عمليات المقايضة وتبادل المصالح والسلع والخدمات.
هذا التمايز الانتاجي يعزز الاعتماد المتبادل بين البدو والحضر
ويؤكد العلاقة التكاملية بينهما وحاجة كل منهما إلى الآخر
وارتباطهما كل بالآخر. والمجتمعات البدوية ترتبط ارتباطا عضويا مع
المجتمعات الحضرية التي تشكل معها أجزاء متداخلة من الصورة الأكمل
والمجتمع الأشمل الذي يتحرك بكامل طبقاته ومكوناته في مسيرته
التاريخية وصيرورته الثقافية.
رغم التمايز بين بدو الجزيرة وحضرها في أنماط الإنتاج ظلت توحدهم
ثقافة الصحراء بكل قيمها ومثلها وتصوراتها وكل رموزها المتغلغلة في
مجتمع الحضر ومجتمع البدو على حد سواء. البداوة والحضارة في
الجزيرة العربية ثقافتان فرعيتان لثقافة أعم وأشمل، ثقافة الصحراء
التي تُشكل سكانها وتلون تفكيرهم وسلوكهم مثلما تشكل الغابة سكانها
أو مثلما تشكل المناطق الجليدية سكانها. ثقافة الصحراء تسكن
الموروث اللغوي والشعري لأبناء الجزيرة العربية. النسيج الخيالي في
الشعر العربي بصوره ومجازاته واستعاراته مستمد من البيئة الصحراوية
ومؤطر بروح
البداوة ونظرتها التي تشكل مادة لا تنضب للاستلهام الشعري وتهيمن
على رؤية العربي وتتغلغل في تكوينه النفسي والوجداني. ومهما حاولت
الحضارة بمنظوماتها الفكرية والأيديولوجية أن تضرب سياجا بين
العربي وبين البداوة فإن لغته وشعره لن يسمحا له بالانسلاخ منها
تماما. ومهما أوغل العربي في التحضر تبقى البداوة الساكنة في
موروثه اللغوي والشعري ماثلة في وجدانه كنموذج لعالم بطولي مثير
وحياة فطرية جميلة ومادة لا تنضب للاستلهام الشعري، إنها النموذج
الأصلي لحياة فطرية كل ما فيها بريء وجميل، فردوس مفقود.
ثالثا: الدولة والقبيلة
التوتر الذي يسود علاقة البدو مع الحضر والفلاحين منذ فجر التاريخ
يوازيه توتر من نوع آخر، هو ذلك التوتر الذي يسود علاقة القبيلة مع
الدولة كتنظيم سياسي. ولأن الدولة مدنية بطبعها فليس من المستغرب
أن تجد نفسها منحازة نحو الحضر في صراعهم التقليدي مع البدو وتتبنى
وجهة النظر الحضرية تجاه البداوة، لكنها تبلور هذه النظرة من مجرد
صور نمطية ومشاعر غامضة إلى نسق فكري وأيديولوجي متكامل. تحول
الدولة هذا التوتر من مجرد تنافس إيكولوجي يمكن له أن يتخذ شكلا
تكامليا سلميا إلى صراع أيديولوجي تضادي بين الدولة والقبيلة
كتنظيمين سياسيين متمايزين تغذيه رغبة الدولة في توسيع سلطتها وفرض
هيمنتها على القبائل عادة تحت ذريعة الدعوة الدينية.
لذلك فإنه مثلا حينما قامت الدولة السعودية اتخذت من النخلة رمزا
من الرموز التي تطالعنا أحيانا في الشعارات الوطنية، وذلك على أساس
أن النخلة ترمز للزراعة التي كانت تمثل القاعدة الاقتصادية للدولة،
هذا بينما لا نجد الإبل تتخذ محلها بين الرموز الوطنية، ربما نظرا
لارتباطها بالبداوة التي تتنافى أيديولوجيا في نظامها القبلي مع
مفهوم السلطة المركزية. فكأن الإبل وأهلها من البدو ضد مفهوم
الدولة، أما أهل النخيل من الفلاحين فهم مع قيام الدولة، نظرا لما
يعود عليهم به الاستقرار من الأمن ورخاء العيش. وقد تكرس التفوق
الحضري في مهرجان الجنادرية حينما اتخذ المهرجان شعارا له قصرا من
الطين إضافة إلى النخلة، دون أي حضور للإبل وبيوت الشعر، علما بأن
المهرجان أقيم أصلا كحاشية للمهرجان الأسبق والذي يشكل ذروة
المناسبة، وهو مهرجان سباق الهجن، وعلما بأن الحرس الوطني جله من
أبناء القبائل وشيوخها. ثم لا ننس أن الأدوار التي قامت بها الإبل،
سواء في نشر الرسالة المحمدية أو في تأسيس دعائم الدولة السعودية
الحديثة أدوار لا يستهان بها، والإبل، بعيدا عن السياسة، هي التي
أعطت للجنس العربي هويته ورسخت وجوده، والأرستقراطية العربية
أرستوقراطية بدوية، وأنا لا أقول ذلك لأعلي أو أدني من شأنها وإنما
فقط أردت أن أحدد علاقة الإنسان العربي مع الإبل، وهي علاقة مركبة
وطويلة لكننا لم نسبر غورها حتى الآن. حتى الآن لم نتفحص الإبل
كمركّب ثقافي في علاقتها مع ابن الجزيرة. إننا في الغالب نتحدث عن
الإبل كمجرد كائن بيولوجي قابل للتشريح الفسيولوجي مستعص على الشرح
الأنثروبولوجي.
كلما سارعت الدولة خطاها وحثت مساعيها نحو تكريس سلطتها وتعزيز
هيمنتها كلما اتضحت حدة التناقض بينها وبين النظام القبلي. ترى
الدولة في حركية القبائل البدوية وروحهم القتالية عوائق تحد من
إحكام قبضتها عليهم وإخضاعهم لسلطتها، وبالمقابل لا يرى البدو في
الدولة إلا قوة تجبرهم على دفع الضريبة أو الزكاة وعلى المحاربة في
صفوفها دون أن تدفع لهم أي شيء بالمقابل لأن خدمات الدولة إن وجدت
لا توجد إلا في الحواضر دون البوادي. وبينما تحل الدولة لنفسها فرض
الضرائب والمكوس والزكاة ومختلف الرسوم على مواطنيها فإنها لا تجيز
للقبيلة أخذ الخاوة أو أي إتاوات أخرى تفرضها القبيلة عادة على من
يجتازون ديارها وينتفعون بمواردها مقابل
التمتع بحمايتها والانتفاع بمواردها الطبيعية من ماء ومرعى واحتطاب
وتعتبر كل ذلك ابتزازا لا مبرر له. وبينما تسمي الدولة حروبها
جهادا أو ما شابه ذلك من الأسماء التي تمنحها شرعية نجدهم يسمون
حروب البدو غزوا ويدينونها على أنها سلبا ونهبا. وترى الدولة أنه
من الطبيعي أن تمد سيادتها وتفرض شرعتها على البادية ولكن ليس من
الطبيعي وليس من حق البدو أن يقاوموا هذه السيادة أو أن يحاولوا هم
من جانبهم أن يمدوا سيادتهم على المدينة وسكانها الحضر أو أن
يفرضوا إتاوات على القرى والقبائل الضعيفة مقابل كف عدوانهم عنهم
وحمايتهم من تعديات القبائل الأخرى.
ولا تقبل الدولة أن تقاسمها القبيلة ولاء الأفراد المنتمين لها ولا
تقر الأعراف القبلية مثل "الدخاله" و"الخاوه" و"الوجه" وغيرها من
الأعراف التي تنتقص من سلطة الدولة وتتنافى مع تشريعاتها. وهناك
الكثير من العادات والممارسات التي تسيّر سلوك ابن القبيلة وتحكم
علاقته بالآخرين والتي تشكل جزءا من هويته الثقافية ومن قيمه
الاجتماعية التي يصعب عليه التخلي عنها لكن الدولة لا يمكن أن
تقرها وتقبل بها. مثال ذلك قضية الثأر واقتصاص الفرد لنفسه من
الآخرين وأخذ حقه بيده وبقوة السلاح. ومن البديهي أنه ليس من السهل
على البدوي أن يتخلى عن "سلوم العرب" ويخضع لنظم الدولة التي
صاغتها ذهنيات حضرية. التخلي عن "سلوم العرب" والأعراف القبلية
وقيم الصحراء والرضوخ لشرعة الحضر كان يشكل تحديا كبيرا بالنسبة
لابن البادية.
من هنا نجد كل الدول التي قامت في بلاد العرب على مر العصور سعت
جاهدة لتقويض القيم القبلية وتبنى أيديولوجية مناهضة للأيديولوجية
القبلية وبأساليب تقوم على المقابلة والمفاضلة بين البداوة
والحضارة وإبراز التضادية بينهما مع التأكيد دوما على أفضلية
التحضر والاستقرار وعلى تفوق الثقافة المدنية الكتابية على ثقافة
الترحال الشفهية. التباين الأيديولوجي والاختلاف التنظيمي بين
الدولة والقبيلة كنقيضين يصعب التوفيق بينهما تغذيه تعاليم الدين
الذي غالبا ما تستمد منه الدولة الناشئة شرعيتها وتتخذ منه سلاحا
فعالا في صراعها الأيديولوجي مع القبيلة، خصوصا وأن تعاليم الدين
لا تتواءم مع حياة الترحال والقيم القبلية. منذ أن بزغ فجر الدولة
الإسلامية الأولى وحتى ظهور حركة الإخوان التي قامت عليها الدولة
السعودية الحديثة كانت القبائل البدوية تُجبَر على الرضوخ لسلطة
الدولة باسم الدين. فالدولة مثلا ترى أن طبيعة الحياة البدوية غير
موائمة للتفقه في أمور الدين وإقامة شعائره على الوجه الصحيح،
ويصعب هنا حصر جميع الأقوال التي تؤكد هذه النظرة والتي منها مقولة
"الدين حضري" ومقولة "من بدا جفا"، بل إن بعض المذاهب كانت لا تقبل
شهادة البدوي ضد الحضري. وممارسة شعائر الدين وطقوسه على الوجه
الصحيح تفترض توفر
نصوص دينية مكتوبة مثل القرآن ومساجد معمورة لإقامة الصلاة، وهذا
ما يتنافى مع حياة الترحال البدوية وطبيعتها الشفهية. إقامة شعائر
الإسلام على وجهها الصحيح يفترض الإقامة في الحضر، وربما كان
الإسلام أساسا يهدف إلى توطين البدو، لأن كل سلطة مركزية تظهر في
الجزيرة العربية تهدف أول ما تهدف إليه توطين البدو نظرا لما بين
النظام القبلي ونظام الدولة وسلطتها المركزية من تناقض. وقد اتخذت
كل الدول التي نشأت في بلاد العرب من أمية البدو وجهلهم بالشرائع
السماوية والكتب المقدسة ذريعة لإخضاعهم وسلاحا في صراعها
الأيديولوجي معهم، فتصفهم بالجهل الديني والتخلف الحضاري وبأنهم
عقبة في سبيل التقدم والتطور ولذلك تسعى لتوطينهم وتدجينهم.
وبالمقابل فإن الحياة البدوية بطبيعتها معرضة للهلاك بسبب القحط
والجوع والغزاة وأسباب أخرى، لذا فهي بحكم الضرورة حياة عملية
دنيوية تستنفد طاقتها المحدودة
للتشبث بالحياة والبحث عن البقاء في هذه الدنيا دون أن يكون لديها
رصيد فائض من الطاقة للبحث في أمور الغيب والحياة الآخرة. البدوي
أساسا رجل دنيا أكثر منه رجل دين، حيث أن حياة الصحراء القاسية
المتقلبة جعلت منه إنسانا يطلب البقاء ويبحث عن ما هو عملي ومفيد
على هذه الأرض، وهو بعيد كل البعد عن الغيبيات. وبينما نجد السلوك
الديني يقوم أساسا على الإيمان والاقتناع فإن السلوك القبلي من كرم
وشجاعة وشهامة ومروءة يقوم على الاعتقاد بأصالة العرق ونقاء الدم
ونبالة الأصل، أي أنه موروث بيولوجيا بحكم انتماء الفرد لقبيلته،
حسب اعتقادهم. الأساس الأخلاقي للسلوك القبلي أساس مادي عملي تغذيه
دوافع نفعية دنيوية أكثر منها دينية. فهو مثلا يحارب للكسب وليس
طلبا للشهادة ويبذل ليس للصدقة بل ليقال عنه أنه كريم مما ينمي
رصيده من النبل والسمعة الطيبة وقصائد المديح، ويغلب على سلوك
البدوي طابع التفاخر والمباهاة، على عكس السلوك الديني الذي يحث
على التواضع وإنكار الذات.
الكرم من الخصال التي تقود المرء إلى الزعامة وتخلد اسمه في عالم
الشعر والأسطورة وفي أحاديث السمر والتعاليل، مثل ما خلدت اسم حاتم
الطائي والجربا وابن مهيد الذي يحمل لقب مْصَوّت بالعشا لأنه إذا
جن الليل اعتلى أحد رجاله أعلى رابية قريبة منهم وصاح ينادي بأعلى
صوته لأي جائع يريد العشاء أن يقبل إلى بيت ابن مهيد. معظم الناس
في البادية يعيشون على حافة الجوع، وما أكثر ما يمضون الليل، خصوصا
في فصل الشتاء، يتضورون من الجوع ويرتعدون من البرد. كان الناس في
حاجة وكان للبذل قيمة. كرم الرجل هو المحدد الأول لنظرة الناس إليه
ومكانته بينهم وشهرته في أحياء العرب. إنه نوع من أنواع الاستثمار
لكنه استثمار في السمعة الطيبة والذكر الحسن. وعبر عن ذلك بوضوح
محمد بن منديل من قصيدة له يخاطب فيها ابنه زيد، خصوصا في
البيتين الأخيرين من قوله:
يازيد انا باوصيك مني وصيّه
وصيّة عودٍ مبهماتٍ سدودَه
أوصيك بالضيف الذي قد لِفت به
بليلٍ وولد النذل باحلى رقوده
قم له الى ما نام غيرك عن القْرى
ولا تحسّب للخساره وكوده
قل مرحبا ياضيفنا وسط بيتنا
الاجواد تِقري ضيفها من وجوده
فلا بد ما يقفون باكوار ضمّر
للاجناب ياعيد الهجافا بكوده
يعدّون ما قد فات منّك من الثنا
الاجواد يبدون الثنا في ردوده
لولا الثنا ما صار للجود باعث
ولا للمراجل طاريٍ ومعدوده
ويقول مهلهل بن هذال من شيوخ عنزة أيضا:
الصيت لولا فاعل الجود ما شاع
ولا ساد في قومٍ بخيلٍ مْذِلِّ
ويقول ابن عبيكة الشمري:
ان سانعت نِحِط كَبْشٍ على المير
وان عاضِبَت يِسِدّ قولة هلا به
نَبي لْيا مّدوا وَقفَّوا على خير
وتوافقوا من شاف شَيٍّ حكى به
عدم التوافق بين مفهوم القبيلة ومفهوم الدولة يتمثل في أن الانتماء
للقبيلة وما يترتب على ذلك الانتماء من حقوق وواجبات يتحدد من خلال
قرابة النسب والعصبية والانتماء إلى نطفة واحدة، بينما الانتماء
للدولة أساسه قرابة الجوار ويتحدد من خلال مفهوم المواطنة
والانتماء الجغرافي إلى مكان واحد، تربة واحدة. الفرق بين شيخ
القبيلة وأمير القرية أو المدينة لا يقتصر على مسمى اللقب (أحدهما
شيخ والآخر أمير) وإنما على الأسس الشرعية التي يستمد كل منهما
سلطته والآليات المتاحة له لفرض هذه السلطة. الأمير يوحي لقبه بأنه
الآمر الناهي الذي يفرض أوامره وغالبا ما يكون تحت إمرته قوة مجندة
يلجأ لها في فرض سلطته وتنفيذ أوامره لأن حكمه، كما يقول ابن
خلدون، يقوم على القهر والسطوة والإخافة. أما شيخ القبيلة فإنه
يستمد سلطته على أفرادها بحكم القرابة التي تربطه بهم. واللقب
"شيخ" لا يوحي بسلطة استبدادية وإنما زعامة تقليدية يتبرّك بها
الناس ويتبعونها طوعا لا كراهية بما وقر في نفوسهم لها من الوقار
والتجلّة دون أن توجد وسائل ضغط أو ضبط رسمية لممارسة هذا النوع من
السلطة وفرضها على الغير. والشيخ لا يحتاج إلى قوة بوليسية لفرض
إرادته لأنه لا يفرضها على أحد بل الناس هم الذين يقصدونه ويتبعونه
لحاجتهم إلى رأيه وكرمه وشجاعته وغير ذلك من الخصال التي تميزه عن
الكافة. والشيخ لا يمارس القهر على أبناء قبيلته لأنه"محتاج إليهم
غالبا للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطرا إلى إحسان مِلْكَتهم
وترك مراغمتهم، لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه
وهلاكهم". يقول تشارلز داوتي:
جاءت بدوية عجوز هيئتها كالحة وطفقت تقرّع الشيخ ابن ناحل من خارج
بيته الكبير. ألقت كلماتها القاسية على مسمع الجميع ولم يلتفت
إليها أحد من الرجال. كانت تتذمر من أن الكرم لم يعد له وجود في
هذه الأيام. لكن ابن ناحل (وهو رجل رقيق النفس ولين العريكة) ذهب
إلى بيت آخر بعيدا عن مرمى صوت
هذه المرأة المشاكسة. والبدو عادة يتحملون بصبر غضب الإنسان
"الزعل" لأنهم يرون أنه بلاء يبلوهم به الله. وغضبهم لا يدوم طويلا
ومهما بدت كلماتهم عنيفة فإنها لا تحمل وزنا. وإذا أقدم بدوي على
سب شيخه فإنه بحكم أصله النبيل لن يفعل أكثر من أن يهز رأسه ويبتعد
أو يتحمل الأذى حتى يبادر أحد الحضور بإسكات المتعدي. أما بين سكان
المدن فإن من يرتكب مثل هذه البذاءات لا يترك بدون عقاب؛ من يسب
الأمير في حائل أو بريدة يتلقى الضرب من جنود الأمير.
رابعا: الشريعة والفريعة
القضاء من أهم المسائل التي يتضح فيها التباين بين ثقافة الحضر
وثقافة البدو ويحتد فيها التوتر بين الدولة والقبيلة. وتختلف حدة
التوتر من دولة لأخرى. فالدول التي لا يشكل فيها البدو نسبة كبيرة
من السكان قد لا تمانع في تطبيق القضاء العرفي بين أبناء القبائل
البدوية، كما في بلاد الشام والعراق. أما في الدول التي تتألف
غالبية سكانها من البدو وتشكل سلطة القبيلة فيها تحديا حقيقيا
لسلطة الدولة، كما هو الحال مثلا في المملكة العربية السعودية وبعض
دول الخليج، فهناك رفض قاطع للقضاء العرفي وعدم اعتراف بشرعيته،
خصوصا أن هناك بعض البنود في العرف القبلي يتعارض تطبيقها مع وجود
سلطة الدولة وحكم الشريعة ولا تعتبرها الدولة قوانين صالحة وترى
أنها تتنافى مع القوانين المدنية والشرائع السماوية المكتوبة، مثل
قضايا الوجه والجيرة والدخالة والخاوة والوساقة ونظام المسؤلية
المشتركة لخمسة الجاني والمجني عليه وما شابهها. وفي العصور
الماضية، حينما كان الصراع لا يكاد ينقطع بين الدولة والقبيلة، نجد
أنه إذا كانت الغلبة للدولة طبقت الشريعة أما إذا تغلبت القبيلة
طبقت القانون العرفي، أو ما يسمى "الفريعه"، حتى بين الفلاحين من
أهل القرى الذين ينكصون إلى التنظيم القبلي والقانون العشائري في
ظل غياب سلطة الدولة.
مثلما أن الدولة على الصعيد السياسي تعتبر مرحلة متطورة من التنظيم
يتجاوز التنظيم القبلي، كذلك على المستوى القانوني تعتبر الشريعة
التي تستمد مرجعيتها من النصوص المقدسة تجاوزا للفريعة، أي القضاء
العرفي الذي يستمد مرجعيته من العادات والتقاليد العرفية ومن
السوابق والنصوص الشفهية. ومثلما تختلف الأسس الشرعية التي يستمد
منها الشيخ في القبيلة سلطته عن تلك التي يستمد منها الأمير في
الحاضرة سلطته، كذلك تختلف المرجعية المعرفية الشفهية التي يستند
عليها العارفة عند البدو عن تلك المرجعية المعرفية الكتابية التي
يستند إليها القاضي والفقيه عند الحضر. يختلف العرف القبلي عن
أحكام الشريعة في أنه أقرب في طبيعته إلى القوانين الوضعية التي لا
تستند إلى تشريع سماوي وإنما إلى العادات والتقاليد المرعية وإلى
ممارسات الناس اليومية في حياتهم الدنيوية. وبينما يستند القضاء
الشرعي في مرجعيته
إلى نصوص مقدسة من القرآن والسنة ومؤلفات الفقهاء ويتم تأهيل
القضاة الشرعيين في المدارس الدينية فإن الفريعة تستند إلى
"السوالف" وإلى "سلوم العرب" أي الأعراف القبلية والسوابق التي
عادة ما يرثها الخلف عن السلف وتبقى متوارثة في نفس العائلة.
وقضاة الحضر أصلا ينكرون الممارسات القبلية من سلب ونهب والتي
يتعامل معها القضاء العرفي على أنها قضايا مشروعة وصحيحة بينما
تعتبر في الشريعة أمورا محرمة وغير جائزة. كما لا يقرون حرمان
النساء من الإرث ولا يقرون العادات القبلية في الزواج والطلاق
ويرفضون التعامل معها ومع غيرها من الممارسات التي يحرمونها أساسا،
مثل تحجير بنت العم وعدم السماح لها بالزواج إلا من ابن عمها أو
بإذن منه وزواج الخطف والزواج من امرأة مطلقة قبل استكمال عدتها أو
امرأة "طامح" غير مطلّقة، أي ناشز. هذا بالإضافة إلى المسؤلية
الجماعية التي تجيز لأهل القتيل إذا لم يظفروا بالقاتل بأخذ الثأر
من أي من خمسته، والتي تتنافى مع الآية: ولا تزروا وازرة وزر أخرى.
والحضر يسمون عوارف البدو وقضاتهم "طواغيت" من باب الازدراء وعلى
اعتبار أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله وعلى اعتبار أن وظيفة
العارفة تمثل امتدادا لوظيفة الكاهن في العصر الجاهلي، خصوصا وأنهم
يصدرون أحكامهم القضائية بألفاظ مسجوعة حمّالة أوجه على هيئة سجع
الكهان، علاوة على لجوئهم إلى إجراءات قضائية وأساليب في القَسَم
والتثبت من صدق المتهم لا يقبلها الحضر مثل أساليب البشعة بالنار
وما شابه ذلك.
في المجتمع القبلي، والذي يفتقر إلى سلطة تضطلع بمهمة حفظ الأمن
والنظام وتطبيق القانون، يتخذ مفهوم الوجه أهمية خاصة كأداة من
أدوات الضبط الاجتماعي وكمؤسسة أمن وقائية رادعة. فبدون هذه
المؤسسة الاجتماعية يتعذر تطبيق القانون العرفي ولا يمكن للعدالة
أن تأخذ مجراها. في ظل غياب مؤسسات الدولة والسلطة المدنية في
المجتمع القبلي تقع على الوجهاء من أصحاب النفوذ مهمة الحفاظ على
الأمن وضبط النظام والحد من العنف وذلك من خلال مؤسسات الدخالة
والكفالة التي تقوم مقام الأجهزة التنفيذية والأمنية في الدول
الحديثة. الدخالة إجراء وقائي يتم اللجوء إليه لحجز الطارد عن
المطرود أو الظالم عن المظلوم من أجل درء الفتنة وصد الباغي وتمكين
العدالة من أن تأخذ مجراها. ومن أجل أن تكون أحكام القضاء العرفي
نافذة المفعول في ظل غياب السلطة المركزية ولضمان أداء الحقوق يلجأ
المتقاضون إلى الكفالة، حيث يطلب من المتخاصمين، الطالب والمطلوب،
أن يسمي كل منهما كفيلا يتكفل بتنفيذ ما التزم به تجاه الطرف
الآخر، بحيث يضمن في حالة المطلوب أنه سوف يحضر مجلس القضاء ويلتزم
بتنفيذ الحكم، وهذا يسمى "كفيل الوفا"، أو ما يسمونه "موَفّي
مكَفّي" وفي حالة الطالب أنه سوف يكف عن التعديات ضد المطلوب بينما
تأخذ
العدالة مجراها، وهذا يسمى "كفيل الدفا"، أو ما يسمونه "مْعَفّي
مدفّي". ولأهمية الكفالة في تنفيذ حكم القضاء، فلا بد للكفيل أن
يكون شخصا مرموقا صاحب "وجه"، أي من الوجهاء وذوي الشأن في عشيرته
وله من القوة والسطوة والهيبة ما يمكنه من إجبار مكفوله على الوفاء
بوعوده وما يلتزم به. الكفالة والدخالة كلاهما تدخلان ضمن مفهوم
الوجه لكنهما تختلفان في أن الكفالة اختيارية أو كما يقولون
"شْهَوه"، بمعنى أن الشخص حر في أن يقبل أو يرفض تقديم كفالته لشخص
آخر، أما الدخالة فإنها شبه إجباريّه أو كما يقولون "بَلْوى".
القانون العرفي نشأ وترعرع ليتلاءم مع حياة البدو الترحالية
ونظامهم القبلي، لذلك فإنه من الطبيعي أن يبدو هذا القانون شاذا
وغريبا حينما يطبق في بيئة حضرية مستقرة تحكمها سلطة مركزية. فنظام
الجلاء مثلا والذي يشترط على القاتل وخمسته الجلاء عن ديارهم
واللجوء عند قبيلة أخرى حتى يتم الصلح بينهم وبين أهل المقتول لا
يمكن تطبيقه في مجتمع مستقر ممتلكات أفراده ثابتة غير منقولة. مثل
ذلك أيضا "الوساقه" وهو أنه إذا رفض المدَّعَى عليه التقاضي يقوم
المدعي بحجز بعض ممتلكاته من الإبل والخيل ووضع اليد عليها ليجبره
على الإذعان للحق ويدخلها بوجه شخص ثالث على سبيل الأمانة حتى يحصل
منه على حقه.
الاستقرار والمساكن الثابتة تحد من إمكانية الانخلاع من قبيلة
والالتحاق بقبيلة أخرى أو الهرب واللجوء إلى قبيلة بعيدة في حالة
الجرائم الخطيرة مثل القتل، كما أن الأموال الثابتة غير قابلة
للوسق. هذا الحد من الحركة وتقييد الحرية هو ما يجبر القبائل شبه
المستقرة على احترام القانون ومراعاة بنوده وهو ما يدفعهم للجوء
إلى القضاء والتقيد بأصول المرافعات القضائية وإلى الصلح والتوسط
لحل الخلافات وإصلاح ذات البين بدلا من الثأر واللجوء للعنف. ولكن
كلما توغلنا في عمق الصحراء
بين القبائل الرحّل الموغلة في البداوة والتي ليس لها علاقة بالحضر
أو ارتباط بالدولة نجد أن طبيعة حياتها المرتحلة وانتشارها على
مساحات واسعة ومتباعدة لا تسمح بتركيز السلطة في يد شيخ أو أمير
وإنما هي موزعة بين جماعات الخمسة بحيث أن جماعة الخمسة تأخذ على
عاتقها مسؤولية تفسير القانون وتطبيقه دون اللجوء إلى المحاكم أو
الإجراءات القضائية.
تشكلت بذرة الأعراف البدوية في ظل تنظيم قبلي هش كوسيلة للتكيف مع
بيئة الصحراء القاسية المتقلبة مع ما تفرضه من تنافس حاد على
مواردها الشحيحة. في ظل هذه الظروف الصعبة لا يستطيع العيش عيشة
كريمة مرفوع الرأس إلا الشديد القوي القادر على الصبر والتحمل.
الثقافة البدوية مسكونة بهاجس القوة للتغلب على تحديات الحياة في
الصحراء. حكايات البدو وأشعارهم مليئة بالإشارات إلى أنهم يحترمون
القوة وأن الحق للقوة. ولتوضيح هذه الفكرة والتأكيد عليها نجدهم
يستعيرون مجازاتهم من محيط الصحراء الطبيعي. فالرجل القوي الذي
يخافه الناس ويحترمونه يشبهونه بالحيوانات المفترسة والطيور
الجارحة مثل الذئب والنمر والصقر والعقاب. أما الرجل الضعيف
فيشبهونه بالطرائد مثل الحبارى والأرنب أو يشبهونه بالرخم والضباع
والثعالب وغيرها من الحيوانات التي تعيش على الجيف وفضلات ما تصيده
المفترسات.
لا يمكن للفرد أن يعيش وحيدا في الصحراء إذ لا توجد مؤسسات تقدم له
الأمن والحماية عدا المؤسسة القرابية الممتدة والمتمثلة في جماعة
الخمسة. العلاقة التي تربط بين أفراد الخمسة علاقة شبه مقدسة. ولا
أدل على قوتها من أنهم مهما بلغت حدة الخلافات فيما بينهم، حتى ولو
وصلت إلى درجة القتل، فإنهم لا يسمحون لأحد من خارج الخمسة أن
يتعدى عليهم ولا تصل بهم القطيعة إلى درجة التنصل من مسؤولية
الحماية المشتركة. المسؤولية الجماعية المتمثلة في نظام الخمسة وما
يترتب عليه من ممانعة ومدافعة وحماية مشتركة هي الركيزة التي يرتكز
عليها القانون العرفي، فهي تمثل قوة الحماية وقوة الردع في آن
واحد. جماعة الخمسة ملزمون بحماية بعضهم البعض والدفاع عن مصالحهم
المشتركة بكل ما لديهم من قوة سواء في ساحة المعركة أو في المحاكم
وفق مبدأ "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما"، وإلا فقدوا هيبتهم في عيون
الآخرين وأصبحوا لقمة سائغة لا يحسب لها أي حساب. إذا لم تهب
المجموعة للدفاع عن أفرادها ونصرتهم ومساندتهم وحماية حقوقهم فإن
ذلك قد يفسر على أنها أضعف من أن تقدر على ذلك. أي اعتداء يوجه إلى
أي فرد من أفراد الخمسة وأي استخفاف بقدره أو إهانة تلحق به هو تعد
على المجموع. المسؤولية المشتركة في المجتمع القبلي بين أفراد
مجموعة الخمسة يعني أنهم يشتركون في المغانم والمغارم. لذلك فإن
الرجل الذي يعجز عن القيام بما يجب عليه يهب معه رجال عشيرته
وأبناء عمه ليشدوا عضده ويؤازروه ليتمكن من تنفيذ ما التزم به لأن
العار الذي يطاله سوف يطالهم جميعهم ولن يسلم منه أحد كما أن أي
مفخرة يحوزها أحد أفراد الخمسة تصبح مصدر فخر للجميع. البياض أو
السواد الذي ينال الشخص والعيب الذي يلصق به ينعكس أيضا على عشيرته
الأقربين ويصمهم جميعا بدون استثناء وفق مبدأ "في الجريرة تشترك
العشيرة". ومن هنا نشأ مبدأ المسؤولية الجماعية في النظام القبلي
والذي لا تقره الشريعة ولا قوانين الدولة.
خامسا: انحسار البداوة
مع مطلع القرن العشرين أخذت البداوة بالانحسار نتيجة عدد من
العوامل في مقدمتها التطورات التكنولوجية التي نتج عنها استبدال
البدو أسلحتهم التقليدية من رمح وسيف بالرشاش والبندقية
الأوتوماتيكية متعددة الطلقات مما أدى إلى انهيار قوانين لعبة
الغزو، ثم بعد ذلك دخول المكائن الآلية والسيارات إلى الجزيرة
العربية مما نتج عنه تقلص دور الإبل في حياة العرب، وأخيرا نشوء
الدولة الحديثة وتكريس مفهوم السلطة المركزية. كل ذلك أدى إلى تغلب
الحضارة وأفول البداوة واضمحلال قيم الحياة الصحراوية.
يشكل الغزو عنصرا أساسيا من مقومات الحياة القبلية وهدفه ليس القتل
بل السلب والنهب مع أقل قدر ممكن من الخسائر البشرية. ما يحدث من
قتل أو إصابات أثناء الغزو ليست متعمدة لذاتها ولا تعدو أن تكون من
ضمن الأخطار المتعلقة بطبيعة المهنة. لا شك أن أسلحة البدو
البدائية تحد من الإصابات واستحرار القتل بينهم؛ إلا أن الرادع
الأهم هو أن خمسة المقتول طال الزمان أو قصر سوف يطالبون بدمه من
القاتل أو من عشيرته الأقربين، لا سيما أن القتال بالأسلحة
البدائية يتم وجها لوجه مما يجعل التعرف على القاتل أمرا ميسورا.
لذا فإنه حتى في حال كون الشخص متهورا لا يبالي فإن عشيرته سوف
يحدون من غلوائه ويثنونه عن جر الجنايات عليهم وإلا خلعوه من
القبيلة "غزّوا عليه الجَناة". لكن
الأسلحة النارية غيرت من هذا كله حيث أن كفاءتها أدت إلى ارتفاع
عدد القتلى وإلى عدم معرفة القاتل الذي غالبا ما يسدد هدفه من مخبأ
أو من مسافة بعيدة. وتسديد الهدف من مخبأ أو من مكان بعيد لا يترك
مجالا للضحية أن يطلب "المنع" من مهاجمه ولا يتيح الفرصة لرفاقه أن
يذودوا عنه. هذا أدى إلى انهيار الأصول والأعراف التقليدية التي
كانت في السابق تحكم ممارسة الغزو مما حوله إلى مهنة خطيرة جدا.
دخول الأسلحة النارية غيرت قوانين اللعبة تماما وحولت الغزو من
ميدان لاستعراض الشجاعة والفروسية والمروءة والشهامة إلى مجزرة حظ
الذليل فيها مثل حظ الشجاع. قبل انتشار الأسلحة النارية الفتاكة
السريعة التعبئة والمتعددة الطلقات كان سلاح البدو التقليدي، من
سيف ورمح وخنجر وطاسة ودرع وفرس، يتيح الفرصة للفارس ويفتح المجال
أمامه لاستعراض فروسيته أمام الحشود والادلال بشجاعته أمام العدو
والصديق دون
أن يكون عرضة لرصاصة طائشة تأتيه من حيث لا يحتسب وتودي بحياته.
ولقد عبر محمد بن هندي عما أحدثته البندقية من آثار مدمرة على
ممارسات الغزو وقيم الفروسية في هذه الأحدية:
ضرب الموارت ما بها نوماس
حذفة شرودٍ من بعيد
عَلَيّ قضْب عْنانها والراس
والله يدبّر ما يريد
عَلَيّ باللي تبعد المرواس
والعمر لزما انه يبيد
ويقول الشيخ مناحي الهيضل من عتيبة أيضا:
ياكيف يمدح راعي النيشان
حذفة شرودٍ بِمْهَوَى
خطلان الايدي ما لهم ميدان
الخبل والطيب سوا
ما عاد يوجد للفعل ميدان
ويلاه ياعصرٍ مضى
مع انحسار دور الإبل وتقلص منافعها لم تعد البداوة خيارا اقتصاديا
مجزيا وتراجعت أهميتها كوسيلة ناجعة لاستغلال البيئة الصحراوية
التي هي أصلا كانت قد أخذت في التدهور. لما جاءت السيارات حلت محل
الإبل كوسيلة ناجعة للمواصلات ونقل البضائع والمسافرين مما نتج عنه
انصراف الناس عن الإبل وتدني
أسعارها. ومما ضاعف من تردي الوضع أن مجيء السيارات صاحبه مجيء
مكائن ضخ الماء مما قضى على استخدام الإبل في السواني لجذب المياه
من الآبار. أضف إلى ذلك تغير عادات الناس الغذائية وعزوفهم عن لحوم
الإبل وحليبها واتجاههم نحو لحوم الأغنام. وبذلك أصبحت الغنم
منافسا قويا للإبل كمصدر للغذاء، خصوصا وأن السيارات مكنت رعاة
الغنم من نقلها إلى المراعي النائية في قلب الصحراء التي لم تكن
لتقدر على الوصول إليها من قبل وجلب الماء لها يوميا من الآبار
البعيدة. وكان لذلك أثره في تدهور المراعي الصحراوية لأن الأغنام
في رعيها تقضي على الأعشاب وتجتثها من جذورها مما يعيق من نموها في
السنوات القادمة، على خلاف الإبل التي ترعى وهي تسير دون أن تتوقف
فهي لذلك لا تقطف إلا جزءا من الشجيرة ويبقى منها ما يكفي لعودة
الحياة لها في الموسم القادم. ومما فاقم من تدهور البيئة الصحراوية
ممارسة الاحتطاب
الجائر، علاوة على الصيد الجائر إذ أن السيارات والأسلحة النارية
شكلت سلاحا فتاكا في يد هواة رياضة القنص الذين قضوا تماما على
الحيوانات الصحراوية من نعام وظـباء ووعول وأرانب والتي كانت تشكل
في الماضى مصدرا غذائيا هاما لبدو الصحراء.
نظرا لما يمر به العالم بأسره من تطورات هائلة في مجالات
التكنولوجيا وثورة الاتصالات ومن تحولات جذرية في النظم والممارسات
الاقتصادية والسياسية لم تعد البداوة نشاطا اقتصاديا مجزيا ولا
النظام القبلي نظاما فعالا. وأقل ما يمكن أن يقال عن البداوة في
عصرنا الحاضر أنها تحرم أبناءها من الخدمات الأساسية التي تقدمها
المدينة، بما في ذلك الخدمات الصحية والتعليمية والمصرفية
والمواصلات والاتصالات والماء والكهرباء، وغير ذلك من التسهيلات
والحوافز والإغراءات التي لم يعد بمقدور البدوي تجاهلها والاستغناء
عنها وأصبح بقاء الإنسان ووجوده المادي والحيوي مرتبطا بتوفرها.
أصبح البدو مجبرين على الخضوع للدولة والتخلي عن تنظيمهم القبلي
ومضطرين للاستقرار في أطراف المدن والمراكز الحضرية، وهكذا تحولوا
إلى ما يشبه المجموعات الإثنية والأقليات التي تعيش على هامش
الحياة العصرية نظرا لافتقارهم إلى المهارات الضرورية للتكيف مع
الحياة المدنية وما تتطلبه من مهارات مثل إجادة القراءة والكتابة
والخبرة في التعامل مع المؤسسات البيروقراطية والدوائر الحكومية،
مما يكرس النظرة السلبية تجاههم على أنهم جهلة ومتوحشون.
علينا أن نقر بأن البداوة، كنشاط اقتصادي ووسيلة عيش، ليست مرحلة
بدائية من مراحل التطور البشري تسبق الزراعة والاستقرار. لكن ما من
شك بأن النظام القبلي، والذي يمكن أن يقوم بين الرعاة من البدو
وبين الفلاحين من الحضر على حد سواء، مرحلة من مراحل التنظيم
الاجتماعي والسياسي سابقة لقيام الدولة التي تعد تجاوزا لنظام
القبيلة، لذا فإن نشوء الدولة ونموها وتصاعد قوتها سيكون حتما على
حساب النظام القبلي ونقصا من قوة القبيلة. لذا كان من أحد أهم
العوامل التي أدت إلى تقويض سلطة القبيلة ظهور الدولة الحديثة. هذا
وقد ساعدت الأسلحة الحديثة ووسائل المواصلات والاتصالات المتطورة
على تعزيز قبضة الدولة وتمكين السلطة المركزية من مد ذراعها لتحكم
سيطرتها على الأطراف النائية وعلى القبائل البدوية في قلب الصحراء
مما قضى على استقلالية القبيلة وحريتها في الحركة، لا سيما بعد
ترسيم الحدود بين الدول.
والآن تكاد البداوة تختفي من الوجود وهي تحتضر وتموت ببطء كما يموت
البعير، ومع ذلك فإننا لم نبدأ بعدُ محاولة استكشاف حقيقتها وحقيقة
العلاقة الإيكولوجية التي تربطها مع الحضر، والتي تقوم على التكامل
الاقتصادي والتعاون مثلما يشوبها التوتر والصراع. لقد آن لنا أن
نتخطى هويتنا الحضرية في كتابتنا للتاريخ ودراستنا للمجتمع وأن
نتجاوز تحيزات الكتابة ونحاول فهم الثقافة الشفهية البدوية فهما
حقيقيا من داخلها ووفق شروطها هي حتى نتمكن من رؤية العالم بعيون
بدوية. علينا أولا أن نفهم حقيقة البداوة لا كضد للحضارة ورمز
للفوضى والدمار وإنما كثقافة متكيفة لاستغلال مناطق إيكولوجية
وموارد طبيعية غير متاحة للحضر ولا تتواءم مع طبيعة الحياة
المدنية، بعدها علينا أن نعيد تقييم علاقة البدو مع الحضر ونفهم
طبيعتها من وجهة النظر البدوية والحضرية على حد سواء. تغلُّب
الثقافة الكتابية على الثقافة الشفهية يعني في نهاية المطاف انحسار
البداوة وتراثها الشفهي أمام الزحف المدني المدجج بالتكنولوجيا
والأيديولوجيا وأدوات الكتابة. الدولة والدين كلاهما مرتبط
بالكتابة بما تحمله من تحيزات ضد البداوة. لذا يتعرض البدو في
حياتهم اليومية في تعاملاتهم مع الحضر لكل ما تتسم به ثقافة المدن
من تحيزات ومشاعر سلبية ضد البداوة والتي حفظها التدوين الكتابي
منذ أقدم العصور وتراكمت على مر الأجيال، بينما البدو يفتقرون إلى
الأدوات الفعالة التي يمكن أن تساعدهم على مواجهة هذا الواقع لأن
وسائلهم الشفهية في التلقي والتداول والحفظ غير ملائمة لتخزين
المعلومات والمعارف ومراكمتها على المدى الطويل.
لا يمكننا اعتبار البداوة في وقتنا هذا سوى مرحلة ثقافية من مراحل
التطور البشري التي تخطاها الإنسان مثل ما تخطى مراحل أخرى من
قبلها مثل مرحلة الصيد ومرحلة الجمع والالتقاط أو مرحلة البستنة.
والهدف من محاولة فهم البداوة الآن ليس محاولة بعثها من جديد أو
التشبث بها والحفاظ عليها أو حتى بقيمها ومفاهيمها، فالتطور سنة
الحياة والتغير مسألة حتمية. المطلوب هو دراسة المجتمع القبلي
والاقتصاد الرعوي والثقافة البدوية دراسة أنثروبولوجية شمولية
متكاملة من أجل وضعها في سياقها التاريخي والحضاري الصحيح ومن أجل
فهمها فهما حقيقيا وتقييمها تقييما علميا موضوعيا خال من التحيزات
المدنية والكتابية المتراكمة ضدها عبر العصور.
سادسا: نظرة مستقبلية
لقد انتهى الصراع بين الدولة رالقبيلة في عصرنا الحاضر وحُسم لصالح
الدولة، لكن دور القبيلة لم ينتهي تماما حيث تحولت إلى مؤسسة من
مؤسسات المجتمع المدني الأكثر فاعلية داخل الدولة الحديثة، وهذا ما
نشاهده في السعودية ودول الخليج، خصوصا في الكويت، وحتى في العراق
والأردن حيث نشاهد التمثيل القبلي يلعب دورا بارزا فيما يحدث الآن
من خلال ما يسمى بالعملية الديموقراطية. ويحتوي نظام القبيلة، كجزء
من إرثها السياسي، بذور الممارسات الديموقراطية، وإن بصورة بدائية.
فأصحاب المناصب العامة عندهم، مثل الشيخ والعقيد والعارفة، يتم
اختيارهم طواعية ومن منهم يثبت عدم كفاءته أو ينزع نحو الاستبدادية
ينفض عنه أفراد القبيلة ويلتفون حول آخر غيره. ومجلس الشيخ أشبه
بالبرلمان القبلي الذي تبحث فيه أمور القبيلة وتتخذ القرارات حولها
بصورة جماعية وعلنية. فالنظام القبلي لا يخلو من الممارسات
الديموقراطية ولربما كان لهذا السبب أن التجمعات القبلية في منطقة
الخليج كانت دوما هي الأقدر على استيعاب العملية الديموقراطية
وعمليات الترشيح والحملات الانتخابية.
على الرغم مما يتردد على ألسنة الإنتلجنسيا عندنا من ازدراء
للقبيلة وحط من شأنها إلا أننا لو دققنا النظر في القيم القبلية
لوجدنا أنها لا تخلو من بعض الإيجابيات التي قد تتفوق بها على
الحضر فيما يتعلق بالتكيف مع منتطلبات العصر الحاضر وتوجهات النخب
نحو التغيير والإصلاح. طبيعة الحياة الصحراوية جعلت من البدوي
إنسانا عمليا سريع الحركة قادر على التعامل مع الأزمات وإدارتها،
لا يخشى التغيير ومستعد لقبول ما يرى فيه منفعة له ومصلحة. ثم لا
ننس ما كانت تتمتع به المرأة البدوية من حرية اجتماعية تحسدها
عليها أختها في
الحاضرة. والنظام القبلي بطبيعته غير مثقل بالعقائد والأيديولوجيات
المقيِّدة لأن هدفه الأساسي ووظيفته ضمان البقاء والاستمرارية
للأفراد في وجودهم المادي الدنيوي، وهذا ما يصبغه بالصبغة العملية
البراغماتيكية ويمنحه الحركية والمرونة الكافية للتكيف مع الأوضاع
المستجدة والظروف الطارئة ويجعله أقرب إلى المفهوم العلماني الذي
يؤكد على فصل الدين عن الدولة. والقانون العرفي القبلي هو في
حقيقته قانون وضعي علماني. كما أن فصل شخص العارفة عن شخص شيخ
القبيلة يعني فصل السلطة القضائية عن السلطة السياسية وفصل مهمة
عقيد الغزو تعني فصل السلطة العسكرية عنهما. فهم يفصلون بين "شيخ
الباب" و"شيخ الشداد"، الأول منصب سياسي يهتم بتسيير شؤون القبيلة
الداخلية وعلاقاتها مع القبائل الأخرى والعالم الخارجي، بينما
الثاني منصب عسكري مهمته قيادة القبيلة في غزواتها. ولو أن "شيخ
الباب" غزا مع "شيخ الشداد" فعليه الانصياع لقيادته والائتمار
بأمره أثناء الغزو.
إذا نظرنا إلى القبيلة كواقع تنظيمي وممارسات سياسية (لا كحقيقة
بيولوجية أو جينيولوجية، كما يتوهم البعض) فإن القبيلة في
مجتمعاتنا العربية قد تكون هي الأكثر قابلية للتفعيل وقد تكون هي
الأكثر تأهيلا لأن تلعب دور الأحزاب السياسية لو تحولت هذه
المجتمعات إلى مجتمعات ديموقراطية برلمانية. حياة الصحراء بمواردها
الشحيحة وأوضاعها المتقلبة ونزاعاتها التي لا تنقطع منحت القبائل
المرونة والحركية والمهارات اللازمة لإدارة الأزمات والمناورات
والمفاوضات والمساومات مع التحلي بالصبر والجلادة والإصرار وذلك من
أجل الحد من الخسائر وتعظيم المكاسب ولضمان البقاء والاستمرارية،
ولذلك فإنهم يجيدون اللعبة السياسية أكثر من الحضر الذين يميلون
نحو السكونية والتشبث بالمسلمات والثوابت مما يحد من مرونتهم
وحركيتهم في التعاطي مع الأزمات والمستجدات. البدوي إنسان عملي لا
يتشبث بالثوابت وشعاره دائما "الدنيا يوم لك ويوم عليك". إنه حركي
ليس فقط في حله وترحاله بل حتى في طريقة تفكيره وأسلوب حياته ولديه
قدرة على تقبل المستجدات والمتغيرات إذا رآى له فيها مصلحة بينة.
في المجتمعات التقليدية المحدودة الحجم والكيانات السياسية الصغيرة
إلى حد ما، مثل القبيلة، هناك علاقة مباشرة بين الفرد والسلطة
يستطيع الفرد من خلالها أن يتصل رأسا بالسلطة لتوصيل مطالبه
والحصول على ما يريد. أما الدولة العصرية فإن مساحتها الجغرافية
الشاسعة وكثافتها السكانية العالية وتركيبتها الديموغرافية
والبيروقراطية المعقدة تشكل هوة سحيقة تفصل بين الفرد والسلطة تحول
دونه ودون الوصول إلى مركز القرار لبث شكاواه وتقديم مطالبه
والدفاع عن مصالحه والحصول على حقوقه. هنا تصبح الدولة فكرة مجردة
بعيدة المنال يصعب الوصول إليها وتبرز الحاجة إلى وسائط لتجسير
الهوة بين الفرد والدولة، والتي تتمثل في النقابات والأحزاب
ومؤسسات المجتمع المدني. غياب هذه المؤسسات العصرية الحديثة في
مجتمعاتنا العربية هو الذي جعل من القبيلة وغيرها من المؤسسات
التقليدية مؤسسات بديلة تحل محل هذه المؤسسات العصرية وتقوم بدورها
ومهامها.
الإشكالية التي تواجه بلدان الجزيرة العربية في مسيرتها التحديثية
هي كيف يتم تحويل الولاءا ت التقليدية مثل الولاء للقبيلة أو
المنطقة مثلا وتجيير هذه الولاءات للوطن، وكيف نستبدل مفهوم
القبيلة بمفهوم الدولة. أولا ينبغي لنا أن لا نصر على أن هذه
الولاءات التقليدية تتعارض مع الولاء للدولة والوطن. فما الذي يمنع
أن يصبح الفرد مواطنا يخضع لقوانين الدولة دون أن يتخلى عن هويته
القبلية كهوية فرعية تنضوي تحت الهوية الأعم والأشمل. ينبغي أن لا
نضع ابن القبيلة أمام الخيار الصعب بالإصرار على أن هويته الوطنية
وولاءه للدولة يحتمان عليه التخلي عن هويته القبلية. يمكن أن تتحول
القبيلة إلى ما يشبه مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني أو نقابة من
النقابات. ومن ناحية أخرى فإن على الدولة أن تثبت لابن القبيلة
أنها خيار ناجع يمكن أن يحل محل القبيلة وبشكل أكثر كفاءة وفاعلية
فيما يتعلق بتسيير أمور حياته وشؤونه وتقديم ما يحتاج إليه من
خدمات وما يحقق مصالحه وأهدافه. التخلي عن الولاء المطلق للقبيلة
وتجيير هذا الولاء للدولة هو بالنسبة لابن القبيلة رهان لا بد أن
يتأكد من أنه رهان رابح قبل أن يقدم عليه. لذا فإنه تقع على الدولة
مسؤولية إقناعه بذلك من خلال ما تقدمه له من خدمات تفوق كما وكيفا
ما تقدمه له القبيلة. وليس من المنطقي ولا الواقعي أن تتوقع الدولة
أن تمنح لها أي مجموعة فرعية، سواء كانت قبيلة أو منطقة أو مذهب،
ولاءها بدون مقابل يتساوى كما وكيفا مع ما تمنحه لغيرها من
المجموعات الفرعية.
وعموما فإن
مزج الهويات الفرعية لتذوب كلها في هوية وطنية واحدة أمر لا يحدث
تلقائيا وإنما هو يحتاج إلى وقت وجهد واعٍ من قبل مؤسسات الدولة
وأجهزتها المختلفة. فلا بد مثلا أن تتحلى مؤسسات الدولة جميعها
بالموضوعية والحيادية التامة تجاه مختلف الهويات، سواء كانت قبلية
أو عرقية أو مذهبية، حتى لا تشعر هذه الهويات أو أيا منها بأنها
خاضعة لهوية أخرى تسيطر عليها أو تستغلها أو تفرض عليها مسلماتها
وقناعاتها وأن لا تتحول الهيمنة السياسية إلى هيمنة ثقافية أو
طائفية. وينبغي أن تكون أجهزة الدولة ومؤسساتها العامة من صحة
وتعليم وإعلام، وكذلك الوظائف الحكومية، متاحة للجميع على قدم
المساواة وبدون تمييز أو تغليب فئة على أخرى. كما أن فاعلية مؤسسات
الدولة وكفاءتها في أداء مهامها في خدمة المواطنين مما ينمي الحس
الوطني والهوية الجماعية على حساب الهويات الفرعية التي ستذوب
تدريجيا إذا لم يحس المواطن أن مؤسسات الدولة خذلته واضطرته للنكوص
واللجوء إلى هذه الهويات التقليدية لقضاء حوائجه والوفاء بمتطلباته
الحياتية أمام عجز مؤسسات الدولة عن ذلك.
ثم إنه كلما نَعُمت كافة الفئات الاجتماعية بالعدل والمساواة
والرخاء وكلما توسعت قاعدة المشاركة الشعبية في صياغة سياسات
الدولة وصنع القرارات وكلما شارك أكبر عدد ممكن من الناس في التمتع
بخيرات الوطن وثروات البلاد الطبيعية كلما ترسخت الهوية الوطنية
وانحسرت سلطة الهويات الفرعية. ومن الوسائل الناجعة لمزج الهويات
الفرعية ودمجها في هوية وطنية واحدة وشاملة هو تشجيع المواطنين من
مختلف الفئات والطوائف على الاستثمار والمساهمة في مشاريع اقتصادية
عملاقة يحصلون منها على منافع ومكاسب شخصية مما يجعلهم حريصين على
توطيد الأمن والاستقرار الوطني وتعزيز الوحدة الوطنية من باب الحرص
على هذه المكتسبات الشخصية والحفاظ عليها والرغبة في استمرارها
ونمائها. بهذه الطريقة تقترب المصالح الشخصية من المصالح الوطنية
وترتبط معها وتتماهى فيها. تشابك المصالح وتلاقي المشارب بين مختلف
الفئات هو الذي يوحد فيما بينهم بحيث تتغلب المصلحة المشتركة على
الهوية المشتركة. لذا فإنه من المفيد بهذا الشأن أن تسارع الدولة
إلى التخصيص وطرح أكبر عدد ممكن من الشركات والمؤسسات المالية
والمنشآت الاقتصادية للاكتتاب العام وأن تستقطب أكبر عدد من
المواطنين وتيسر لهم عمليات الاكتتاب في هذه المساهمات وتشجعهم على
ذلك. التخصيص والمساهمات خطوات فعالة نحو توسيع القاعدة الاقتصادية
والعدالة في توزيع الثروة على الناس من خلال ما يجنونه من عوائد
وفوائد على الأسهم، وفي المشاركة الشعبية في تمويل مشاريع التعمير
والبناء، وفي خلق طبقة وسطى تحفظ التوازن الاجتماعي والاستقرار
السياسي. المساهمات هي التي تجعل المواطنين يحسون بالشراكة
الاستثمارية، وتجعلهم يشعرون بأنهم شركاء يربطهم مصير اقتصادي
مشترك، وهذا مما يؤلف فيما بينهم ويوحد رُؤاهم وأهدافهم وينمي فيهم
حس المواطنة، ويخفف من حدة الاختلافات القبلية والإقليمية
والطائفية. والمواطن الذي له مصلحة يجنيها من ازدهار وتطور البنى
التحتية والمؤسسات الاقتصادية والمنشآت العامة سوف يكون أكثر حرصا
على عدم المساس بها وجلب الضرر لها، وفي حمايتها ضد المخربين
والمستهترين. حينما يكون المواطن شريكا في هذه المؤسسات والمنشآت
فإنه سوف يكون حريصا على سلامتها ويحافظ عليها مثلما يحافظ على
ممتلكاته الخاصة.
الفقر والخوف والكبت، كلها آفات تعثعث في جسد الوطن وتوهن الحس
الوطني. بينما تَوَفُّر الأمان والكرامة والرخاء ورغد العيش يوحّد
الناس ويشكل قوة الجذب والاستقطاب نحو المركز ويساعد على مقاومة
التبعثر والتشتت والخروج عن المسار. متى ما توفر الرخاء المادي
والاستقرار الاقتصادي توفر الاستقرار السياسي وزاد الحرص على وحدة
الوطن وأمنه ومصلحته. وهذا مما يوحد مشاعر الناس وينسيهم خلافات
الماضي، قبلية كانت أو إقليمية أو طائفية، ويضخ فيهم إحساسا جديدا
وشعورا قويا بالانتماء والأخوة والمواطنة. هذه إحدى الوسائل
العملية والفعالة لتطبيق المقولة المعهودة "الوطن ملك للجميع" على
أرض الواقع.
|