مخطوطات الشعر النبطي
وأهميتها في تحديد نشأته وتتبّع حُقَبِه
سعد الصويان
تحتل مسألة تدوين الشعر النبطي موقعا استراتيجيا في قضية بحثنا عن
علاقته بالشعر الجاهلي وعن بداياته الأولى وعن انتقال الخطاب
الشعري من الفصيح إلى العامي. الدواوين المطبوعة قد تفيد القارئ
كمدخل أولي للشعر النبطي، أما إذا ما أردنا أن نبحث بحثا علميا
جادا عن تاريخ هذا الشعر ونحدد نشأته ونتتبع المراحل الفنية
واللغوية التي مر بها فإنه لا يمكننا الاعتماد كلية على ما تلفظ به
المطابع من دواوين لأنها، باستثناء القليل منها، تزخر بالأخطاء
الطباعية التي تحد من قيمتها كمصادر لدراسة هذا الأدب. هذا
بالإضافة إلى أن المصادر المطبوعة لم تستوعب كل ما هو مدون في
المخطوطات، وغالبية ما ينشر فيها من إنتاج شعراء النبط المتأخرين.
إن صرامة المنهج العلمي تقتضي منا في محاولاتنا تتبع أوليات الشعر
النبطي والبحث عن بداياته وعلاقته بالشعر العربي القديم أن ندعم
مصادرنا المطبوعة بالوثائق الخطية ما أمكن ونجدّ في البحث عن أقدم
الشواهد المخطوطة من الشعر النبطي لأنه لا يحسم الخلاف مثل السند
المكتوب. الرواية الشفهية لوحدها وبدون دعم من سند خطي موثق لا
يمكن الركون إليها لأكثر من مئتي سنة أو ما يقارب ذلك. لا مفر
للباحث الجاد من التنقيب عن المصادر الخطية والرجوع إليها.
يلاحظ على النماذج القديمة التي وصلتنا من الشعر النبطي طولها
المسرف. وليس من عادة الشعراء الأميين وشعراء البادية الذين
يعتمدون على الذاكرة في الحفظ والمشافهة في الرواية التطويل في
قصائدهم ولا نجد المطولات عادة إلا عند المتعلمين من شعراء
الحاضرة، أو على الأقل من يتوفر لهم كتبة يدونون قصائدهم. من
المستبعد مثلا أن شاعرا مثل الخلاوي الذي نظم من المطولات ما يربو
على الألف بيت وتحوي قصائده ما تحويه من علوم ومعارف في التصوف
والفلك كان شاعرا أميا شفهيا. كما يستبعد أن بركات الشريف، أحد
أمراء دولة المشعشعين، كان أميا. أما في العصور المتأخرة فنحن نعرف
أن جبر بن سيار والهزاني وابن لعبون ومحمد العبدالله القاضي وغيرهم
نالوا حظا لا بأس به من التعليم؛ وهذا برهان يقيني على أن النظم
بالعامية لا يعني بالضرورة أمية الشاعر، بل ربما يكون السبب
الرئيسي في بقاء ما تبقى لنا من قصائد الشعراء القدامى هو قدرتهم
على كتابتها وحفظها من الضياع والاندثار.
كما يلاحظ أن ما وصلنا من قصائد شعراء النبط القدامى كأبي حمزة
العامري وشعراء الدولة الجبرية تشوبها مسحة من الفصاحة مما يجعلها
تبدو أقرب إلى الشعر الفصيح من القصائد التي نظمها شعراء النبط
المتأخرون. وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى هذه القصائد القديمة
كنماذج تمثل مرحلة انتقال لغة الشعر من الفصحى إلى العامية. السياق
التاريخي واللغوي يقودنا إلى افتراض مرحلة
وسطى مرت بها لغة شعر البادية العربية في طور الانتقال من الفصحى
إلى العامية والتي تمثل بدايات الشعر النبطي.
ومع تسليمنا بهذه الفرضية على الصعيد النظري إلا أن هنالك بعض
الاعتبارات التي تملي علينا قدرا من الحيطة على الصعيد التطبيقي
لأن مسحة الفصاحة التي تبدو لنا في بعض نماذج الشعر النبطي القديم
تحتمل أكثر من تفسير. لا بد أولا من الاعتراف بأننا لا نعرف شيئا
ذا بال عن هؤلاء الشعراء ولا عن أوضاع العصور التي عاشوا فيها مما
يجعل الباحث في حيرة ويثير في ذهنه تساؤلات كثيرة. هل هم من شعراء
الحاضرة أم من شعراء البادية؟ هل هم متعلمون أم أميون؟ هل الفصاحة
التي تشوب شعرهم فصاحة بالفطرة مردها ترسبات العصر الفصيح وآثاره
العالقة أم أنها تفاصح ومحاولات بائسة لمجاراة الشعر الفصيح؟ من
المرجح أن بعضا من الشعراء القدامى الذين وصلتنا أشعارهم نالوا
قسطا من التعليم ومن غير المستبعد أنهم كانوا يحاولون في نظمهم
مجاراة الشعر الفصيح لكن درجة تمكنهم من الفصحى تقصر بهم عن
الإجادة فيها فتتسرب إلى نظمهم المفردات والتراكيب العامية، تماما
مثلما تتسرب إلى كتابات من جاء بعدهم من العلماء والمؤرخين مثل
الفاخري والمنقور وابن ربيعة وغيرهم من الذين يفترض أنهم وصلوا إلى
أعلى ما يمكن الوصول إليه من التحصيل العلمي المتاح لهم في ذلك
الوقت.
هذا وتختلف العامية في الجزيرة العربية عن العامية في الحواضر
والعواصم في أنها عامية أمية شفهية لا تقتصر على طبقة معينة بل
تتغلغل في صميم المجتمع ومجمل خطابه السياسي والاجتماعي. الجمهور
الذي يخاطبه الشعراء أمي وكذلك الأمراء والشيوخ الذين يرعون الشعر
والشعراء مقابل مدحهم وتخليد مآثرهم عاميون أميون. لذلك حتى لو فرض
أن الشاعر متعلم يجيد النظم بالفصحى فإن الطريق الأقرب بالنسبة له
من أجل التأثير على الجماهير والولوج السريع إلى قلوب ممدوحيه هو
النظم باللغة التي يفهمونها وهي اللغة العامية. وكذلك علية القوم
لو قالوا شعرا فإنهم قائلوه باللغة التي يجيدونها ويجيدها من حولهم
وهي اللغة العامية، حتى ولو فرض أنهم نالوا قسطا من التعليم. لو
نظم الشاعر المتعلم الذي يعيش في مجتمع أمي بالفصحى التي يصعب على
العامة فهمها فلن يجد من يستمع له ولن تروج أشعاره بين الناس لذا
ينصرف إلى النظم بالعامية لكسب الجمهور ويضمن الرواج.
إضافة إلى هذه التساؤلات حول فصاحة النماذج القديمة من الشعر
النبطي فإن حفظها عن طريق التدوين يفرض درجة عالية من الانتقائية.
في مثل هذه الأوضاع والظروف التي يندر فيها المتعلمون ولا يتوفر
فيها الكتبة إلا لدى الأمراء والشيوخ فإنه لن يحظ بالتدوين إلا
القصائد التي قالها هؤلاء أو التي قيلت فيهم أو التي يقولها شعراء
الحاضرة المتعلمون. أما قصائد الشعراء الأميين في القرى النائية
وأعماق البادية، حيث لا كتبة ولا نساخ، فإنها سرعان ما يطويها
النسيان وتَمّحي من الذاكرة الجماعية. لذا فإنه في غياب نماذج من
الشعر الشفهي الحقيقي الذي قاله شعراء أميون وتناقله رواة أميون لا
نستطيع القول بأن لدينا صورة واضحة ودقيقة ومكتملة لبدايات الشعر
النبطي وما كانت عليه لغته أثناء المرحلة الانتقالية من الفصحى إلى
العامية. لو وصلنا شيئ من هذه الأشعار الشفهية لاستطعنا الجزم بأن
ما فيها من مظاهر الفصاحة مرده إلى الفطرة والسليقة وليس إلى
التعليم والدراسة.
هذه الاعتبارات، التي ينبغي أن تبقى دائما ماثلة في ذهن الباحث، لا
تدحض الفرضية القائلة بأن اللغة الشعرية في بادية الجزيرة العربية
مرت بمرحلة انتقالية أثناء تحولها من الفصحى إلى العامية، لكنها
ربما تزعزع ثقتنا المطلقة بأن أي قصيدة نبطية قديمة تشوبها مسحة من
الفصاحة يمكن اعتبارها من النماذج التي تمثل المرحلة الانتقالية
بين فصاحة اللغة وعاميتها على المستوى الجماهيري. فلو تفحصنا مثلا
إنتاج أبي حمزة العامرى لوجدناه أفصح من شعر عامر السمين والعليمي
والشعيبي. هل مرد ذلك إلى أن أبا حمزة أقدم من هؤلاء وأقرب إلى عصر
الفصاحة؟ أم أن فصاحة شعره تعود إلى أنه أوفر علما منهم بقواعد
العربية!
فصاحة النماذج الشعرية التي وصلتنا من العصور القديمة قد يكون
مردها ليس فقط قرب عهدها من عصر الفصاحة ولكن ربما أيضا لأن
الشعراء الذين نظموها شعراء نالوا حظا من التعليم. ولأن أولئك
الشعراء كانوا متعلمين نزعوا في شعرهم إلى الفصاحة وإن لم يتقنوها
لكن معرفتهم بالكتابة أتاحت لقصائدهم فرصة الحفظ والبقاء. التعليم
المتاح لأولئك الشعراء لم يمكنهم من بلوغ المستوى الذي يسمح لهم
بنظم قصائد فصيحة صحيحة تنقل أسماءهم من قائمة شعراء النبط إلى
قائمة شعراء الفصحى. لكن التعليم مكنهم على الأقل من تدوين قصائدهم
فظلت محفوظة عن طريق النقل الكتابي إلى وقتنا الحاضر. والنسخ التي
بين أيدينا للقصائد القديمة إما أن تكون دونت في أوقات متأخرة من
مصادر شفهية، وهذا هو الأمر المحتمل بالنسبة للقصائد التي وصلتنا
بعدة روايات، أو أن تكون متسلسلة عن طريق النقل الكتابي من الأصل
الذي خطه الشاعر، وهذا هو الأمر المحتمل بالنسبة للقصائد التي
وصلتنا في رواية واحدة. ولا نعرف إذا ما كانت لا تزال هناك نسخ
أصلية من القصائد القديمة التي كتبها الشعراء القدامى بأيديهم
لكننا نستبعد ذلك. الاحتمال الأقوى أن هذه الأصول تلفت بفعل
التقادم ورداءة الورق المستعمل آنذاك وقسوة الظروف المناخية
والإهمال وطرق الحفظ البدائية وقلة العناية واللامبالاة في
الاستخدام.
وأقدم ما بين أيدينا من مخطوطات الشعر النبطي المخطوطات التي جلبها
تشارلز هوبير من حائل حينما زارها في النصف الثاني من القرن التاسع
عشر. وقريب منها في الزمن المخطوطة التي اشتراها ألبرت سوسين من
محمد الحساوي في بغداد. ويبدو من تفحص محتويات هذه المخطوطات أنها
نسخت في منتصف القرن التاسع عشر حيث تحتوي على قصائد شعراء وأمراء
عاشوا في تلك الفترة مثل عبيد بن رشيد ومشعان بن هذال ومحمد بن
هادي وتركي بن حميد ومحمد العلي العرفج ومحمد العبدالله القاضي
ومحمد بن لعبون وعبدالله بن ربيعة. لكن هذه المخطوطات تحتوي على
قصائد شعراء تقدموا على هذه الفترة بأربعمائة سنة أو تزيد مثل حمزة
العامري وشعراء الدولة الجبرية. ربما حصل نساخ هذه المخطوطات على
قصائد معاصريهم من أفواه الشعراء أنفسهم أو عن طريق الرواية
الشفهية الحية أو حتى من قصاصات جاءت من هنا وهناك. لكن كيف حصل
هؤلاء النساخ على قصائد الشعراء القدامى الذين مضت عليهم مئات
السنين؟ عن طريق الرواية الشفهية أم عن طريق مخطوطات لم تصل إلينا؟
الاحتمال الثاني هو الأرجح. وأيا كان الأمر، فإن هنالك فجوة
زمنية تزيد عن أربعمائة سنة تفصل بين أقدم النماذج التي وصلتنا من
الشعر النبطي وبين مخطوطات هوبير التي تمثل أقدم ما بين أيدينا وما
استطعنا الحصول عليه من مخطوطات الشعر النبطي. أين المخطوطات
الشعرية التي استقت منها مخطوطات هوبير مادتها والتي كانت متداولة
منذ بدأ تدوين الشعر النبطي في مراحله المبكرة؟
لا شك أن النساخ قاموا بجهود يستحقون عليها الشكر الجزيل، والحق
أننا مدينون لهم بالشيء الكثير. إلا أنه مع ذلك تبقى بعض
الاعتبارات المنهجية التي تحد من إمكانية الاستعانة بهذه المخطوطات
في التأريخ للشعر النبطي وتتبع مراحل تطوره. فنحن مثلا لا نعرف
بالتحديد ما هي المصادر التي حصلوا منها على ما تتضمنه مخطوطاتهم
من مادة شعرية، وخصوصا القصائد القديمة. وعلى هذا الأساس فإن
مخطوطات الشعر النبطي ربما تتفوق في بعض النواحي على الرواية
الشفهية وتتميز بقدر كبير من الشمولية والحصر، لكنها في أغلب
الأحيان، مثلها مثل بقية المصادر الخطية، لا تعدو أن تكون مجرد
تدوين وتثبيت خطي للرواية الشفهية أو تجميع لقصاصات مجهولة المنشأ
أو أضابير لا يعرف من خطها ولا متى خطها. ومع كل ما سبق التأكيد
عليه بخصوص أهمية المصادر المخطوطة إلا أن النص المدون الذي لا
نستطيع تتبع إسناده وتسلسله حتى نوقفه على قائله لا ترجح قيمته
كثيرا على النص الشفهي. كلما كانت المخطوطة أقدم وأقرب إلى زمن
الشاعر الذي ندرس إنتاجه ازدادت قيمتها كمصدر من مصادر الدراسة.
والشواهد الخطية في حد ذاتها لا تفيدنا كثيرا إن لم نتمكن من معرفة
ناسخها ومتى نسخها، إذ يحتمل أنها دونت في وقت متأخر بعد ما تعرضت
المادة الشعرية من خلال الرواية الشفهية للتحوير الأدبي واللغوي
وتسربت إليها النفحات الأسطورية. ماذا نفعل بنص دون في عصرنا هذا
لقصيدة يفترض أنها قيلت منذ مدة تزيد عن خمسمائة سنة؟ البرهان
القاطع هو الحصول على النسخة الأولى التي كتبها الشاعر بخط يده أو
التي أملاها بلسانه وبلفظه أو، على الأقل، أول نسخة دونت للقصيدة.
ومن هنا نمسك بطرف الخيط ونتتبع مسيرة القصيدة من النسخة الأولى
إلى النسخة التي تليها وتولدت عنها وهكذا حتى نصل إلى آخر نسخة.
ويمكن أن نعكس اتجاه البحث ونقتفي أثر النص المكتوب متراجعين إلى
الوراء حتى نرده إلى أصله، إلى أول نسخة منه لنعرف تاريخ النسخة
ومدى قربها أو بعدها زمنيا من الشاعر الذي تنسب إليه الأبيات.
ونادرا ما يذكر النساخ مصادرهم لذا فإننا لا نعرف الطرق التي
سلكوها ولا التسلسل الذي ساروا عليه في تجديد نسخ القصائد، أي لا
نعرف أن فلاناً من النساخ استكتب هذه القصيدة أو تلك عن فلان من
النساخ والذي بدوره كان قد نسخها عن فلان أو رواها عن علان، وهكذا
عودا إلى الوراء حتى نصل إلى قائل القصيدة. ولو قارنا الروايات
المختلفة لنفس القصيدة كما ترد
في الدواوين المطبوعة والمخطوطات لوجدنا أن هناك حالات يكون
التفاوت فيها واضحا بين هذه الروايات. هذا عدا الاختلاف في نسبة
بعض القصائد وتداخل القصائد التي تشترك في الوزن والقافية. وقد
لاحظنا أن روايات بعض القصائد قد يصل الاختلاف بينها إلى درجة يصعب
التأكد فيها مما إذا كنا أمام قصيدة واحدة بروايات متعددة أم عدة
قصائد متشابهة. كل ذلك يوحي بأن بعض المصادر التي استقى منها
النساخ مادتهم كانت مصادر شفهية مما يجعل من الصعب تتبع سند
القصيدة وردها إلى مصدرها الأصلي والتحقق من لغتها ومتنها كما وردت
على لسان قائلها.
ومما يزيد من اضطراب الوضع وتعقيده ما نلاحظه في رواية الشعر
النبطي من تداخل الرواية الشفهية والرواية التحريرية، وهذا أمر
غير مستغرب في مجال الأدب الشعبي عموما. وهناك الكثير من الحالات
التي يتم فيها تدوين الرواية التحريرية في وقت متأخر بعد تعرّض
المادة الشعرية
من خلال الرواية الشفهية للتحوير والتغيير. قد يعيش النص الشفهي
على الألسن لعشرات السنين ثم يأتي وقت يعمد فيه أحد النساخ إلى
تدوين واحدة من الروايات الشفهية المتعددة للنص وتثبيتها خطيا
لتصبح بذلك نسخة معتمدة وتحفظ من الضياع بينما تأتي عوادي الزمن
على الروايات الأخرى وتطمسها من الذاكرة الجماعية بعد موت رواتها.
وقد تحظى عدة روايات شفهية مختلفة للنص الواحد بالتدوين فيصبح بين
أيدينا أكثر من نسخة لروايات مختلفة للقصيدة الواحدة. وعلى الجانب
الآخر، قد تبقى إحدى القصائد محفوظة لمدة طويلة عن طريق التدوين
برواية واحدة لا غير. وبعد سنين طويلة تقع القصيدة في أيدي أحد
الحفظة فيقرأها أو يسمعها فتثبت في ذاكرته ويبدأ باستظهارها
وروايتها في المجالس. وهكذا تشيع القصيدة بين الناس ويتلقفها
الرواة وتدخل إلى عالم الرواية الشفهية وتبدأ التحويرات والتغييرات
تدخل عليها من هنا وهناك. ولو قارنا الروايات المختلفة لبعض
القصائد كما ترد في الدواوين المطبوعة والمخطوطات لوجدنا أن هناك
حالات يكون التفاوت فيها واضحا بين هذه الروايات. هذا عدا الاختلاف
في نسبة بعض القصائد وتداخل القصائد التي تشترك في الوزن والقافية.
ويلاحظ أن روايات بعض القصائد قد يصل الاختلاف بينها إلى درجة يصعب
التأكد فيها مما إذا كنا أمام قصيدة واحدة بروايات متعددة أم عدة
قصائد متشابهة.
ولا شك أن التدوين الخطي يتفوق كثيرا على المصادر الشفهية وعلى
المصادر المنشورة، إلا أنه لا يسلم دائما من التشويه والتصحيف
والتحريف. فقد تمضي مئات السنين على نسخة لإحدى القصائد ولا يأتي
من يجدد نسخها إلا بعد أن تكون طرق الكتابة وأساليب الخط قد تغيرت،
مما يؤدي إلى عدم التمكن من قراء النسخة بوضوح، خصوصا إذا كان الخط
رديئا، وهذا بدوره يقود إلى تفشي الأخطاء في النسخة الجديدة.
وتتفاقم المشكلة مع مرور الوقت جراء التغير اللغوي الذي ينجم عنه
اطّراح بعض الكلمات والاستعمالات واستبدالها بأخرى غيرها مما يجعل
فهمها صعبا على الأجيال المتأخرة. والناسخ إذا عجز عن قراءة الكلمة
أو فهمها فلربما لجأ إلى استبدالها بأخرى تقوم مقامها في الوزن
والمعنى، أو يقوم بنسخها كما تبدو له بصريا دون أن يفهم معناها
فينتج عن ذلك كلمة لا معنى لها. ولهذه الأسباب نجد أن بعض القصائد
الموغلة في القدم مشوهة في نسخها وصعبة في قراءتها وفهمها وتعاني
من الخلل في الوزن والغموض في المعنى.
والمطلع على مخطوطات الشعر النبطي يلاحظ أن معظم النساخ خطهم رديء
لا يكاد يقرأ، وحتى من يتمتع منهم بخط جميل مقروء لا تخلو كتابته
من الأخطاء الإملائية. هذه الأخطاء تقوم دليلا على أن النساخ الذين
قاموا بتدوين الشعر النبطي وإن كانوا ملمين بمبادئ القراءة
والكتابة إلا أن معظمهم من العامة الذين هم أقرب إلى طبقة الأميين
منهم
إلى المتعلمين. ومما يفاقم المشكلة أن الخط العربي لا يتمشى تماما
مع طريقة النطق العامي. ويصعب حصر الأخطاء الإملائية التي تعج بها
مخطوطات الشعر النبطي إلا أننا نذكر منها مثلا عدم كتابة ألف الوصل
وكتابة الكسرة المشبعة ياء، والخلط بين التاء المربوطة والتاء
المفتوحة، وبين الألف الممدودة والألف المقصورة، وبين الضاد
والظاء، وبين القاف والجيم (وخصوصا في المخطوطات التي جاءت من شرق
الجزيرة العربية) والخلط بين نون التنوين والنون التي تأتي في آخر
الكلمة مثل نون النسوة، والخلط بين الشدة الناجمة عن إدماج حرفين
متماثلين والشدة الناجمة عن إدغام اللام الشمسية بالحرف الذي
يليها، فالبعض مثلا يكتب >أنا اتكالي على ذي القوة العالي< هكذا
>أنا التكالي على ذي القوة العالي< أو يكتب >جرد صفاح سيوف عزمك
وادّرع< هكذا >جرد صفاح سيوف عزمك والدّرع<. وتجيز العامية
الابتداء بساكن لكن بعض النساخ بدلا من وضع سكون على الحرف الأول
يضع ألفا قبله كأن يكتب >وْنيران< هكذا >اونيران< مما قد يوهم
القارئ بأن ما يسبق كلمة >نيران< هو حرف العطف >أو< بدلا من الواو.
ومن الأخطاء الإملائية التي تقود إلى الغموض الخطأ في تقسيم
الكلمات كأن يظن الناسخ أن الحرفين الأولين في الكلمة حرف جر
فيفصلهما في الكتابة مثل >من جلي< بدلا من >منجلي< أو أن يشبك حرف
الجر مع الكلمة التالية مثل >منعلي< بدلا من >من علي<. وشبيه بذلك
>بهالايام< بدلا من >به الايام< مما يغير المعنى من >فيه الأيام<
إلى >في هذه الأيام<. ونتيجة هذه الأخطاء تصادفنا أحيانا كلمات
تحتاج قراءتها وفهمها لشيء من الروية والتفكير مثل >هسّـبة< =
>هالسبت< أو >ابهلوقة<= >بهالوقت< أو >برّسول< = >بالرسول<.
والكثير من الأخطاء الإملائية أتى نتيجة جهل النساخ بقواعد الإملاء
والكتابة. لكن هناك أسبابا أخرى لهذه الأخطاء منها أن بعض الشعراء
نالوا قسطا من التعليم مكنهم من استخدام كلمات وعبارات فصيحة
يجهلها بعض النساخ ولا يعرفون معانيها لذلك فهم يعتمدون في نقلها
على الرؤية البصرية دون إدراك المقصود بها، مما يزيد من احتمال
الخطأ في النقل. والشيء نفسه يمكن أن يحدث بالنسبة لأي قصيدة تقع
في يد الناسخ لأول مرة وينقلها على استعجال دون أن تتاح له الفرصة
من قبل لقراءتها أو الاستماع لها وتدبر معانيها. كما أن اعتماد
الناسخ في كتابة قصيدة لم يسمع بها من قبل على شخص آخر يمليها عليه
يجعله عرضة للخطأ في تقطيع كلمات القصيدة وفي إدراك مخارج بعض
الحروف ونطق بعض الأصوات بطريقة صحيحة. وبطبيعة الحال فإن أي خطأ
يحدث لأي سبب من الأسباب المذكورة في أي مخطوطة يمكن أن يتكرر في
المخطوطات التالية التي تعتمد عليها.
وقد يكون من السهل تصحيح ما تعاني منه المخطوطات من أخطاء إملائية
أو أخطاء في تقطيع الكلمات (مثلا >منعلى< بدلا من >من على< أو >من
جلي< بدلا من >منجلي<) لأن هذه الأمور تخضع لقواعد معروفة يمكن
الاحتكام إليها. لكن مهمة المحقق تكون أصعب إذا كان الناسخ قد
استبدل لفظة بأخرى تقوم مقامها في الوزن أو عمد إلى رسم كلمة لا
يستطيع قراءتها أو فهم معناها رسما خاطئا أو حينما لا نستطيع قراءة
النص المكتوب لرداءة الخط أو انطماسه أو تمزق الورق، خصوصا في حالة
عدم توفر أكثر من نسخة خطية واحدة للقصيدة. ولذلك فإنه كلما زاد
عدد النصوص المخطوطة للقصيدة كانت مهمة التحقيق والترميم أسهل
وكانت ثقتنا بالحلول التي نصل إليها أكبر.
وإذا ما تعذر على الناسخ قراءة كلمة أو مقطع فإن عليه، بدلا من
الإتيان بشيء من عنده، أن ينقل ما لم يستطع قراءته كما هو أو، إذا
كان قد انطمس تماما، يترك مكانه فراغا. والنص، في نهاية المطاف،
يستمد قيمته من كونه مرآة تعكس عصره فنيا ولغويا وتاريخيا. لذا
فإنه ليس من الأمانة العلمية العبث بالنصوص في عمليات النسخ أو
الترميم والتحقيق، لا من حيث الرقابة السياسية أو الأخلاقية ولا من
حيث الإصرار على الحصول على نص مستقيم الوزن والمعنى حتى ولو لم
يكن هو الأصل، وأي اجتهادات في هذا الخصوص لا بد أن يكون القارئ
على علم تام بها. وتحقيق النص لا يقصد به مجرد الحصول بأي ثمن على
قصيدة جيدة فنيا أبياتها مستقيمة في معناها ومبناها وإنما القصد هو
الخروج بنص قريب من الأصل ما أمكن حتى نستطيع الاعتماد عليه كوثيقة
تاريخية ولغوية.
ويمكننا إيراد العديد من الشواهد التي توضح مدى ما تعاني منه
مخطوطات الشعر النبطي من أوجه الخلل والقصور التي تحد من إمكانية
الاعتماد عليها لرسم صورة يقينية عن واقع الشعر النبطي، خصوصا في
مراحله القديمة، لكننا سنكتفي بمثالين اثنين للدلالة على ذلك. خذ
مثلا همزية أبي حمزة العامري كما وردت عند محمد الحساوي (سوسين)
والدخيل والربيعي وابن يحيى. نلاحظ تداخلا بين أبيات هذه القصيدة
وأبيات همزية شاعر متأخر هو حمد الغيهبان المري التي على نفس البحر
والقافية. كما نلاحظ اختلافا واضحا في الكلمات وفي عدد الأبيات
وترتيبها بين مخطوطة وأخرى، فهي تبلغ 42 بيتا عند الذكير و43 بيتا
عند ابن يحيى ومنديل و45 بيتا عندالحاتم و49 بيتا عند الحساوي و66
بيتا عند الدخيل و72 بيتا عند الربيعي. هذا عدا الأخطاء الإملائية
وخلل الوزن. والمثال الثاني مطلعان لقصيدتين من قصائد عامر السمين
كما وردتا في مخطوطات الربيعي وابن يحيى. المطلع الأول من قصيدة
قالها عامر السمين يمدح بها قضيب بن زامل والذي يقول:
انا اتكالي على ذي القوة العالي
ربي سنادي واعتقادي بآمالي
والمطلع الثاني من قصيدته الذهبية التي يمدح بها بركات الشريف
والذي يقول:
لمن طلل بين الخمائل والخالي
خلا وخوا واختلا منزله الخالي
نلاحظ في هذين المطلعين أن الشطر
الأول مستقيم الوزن سليم العبارة لكن وزن المصراع الثاني مختل ولا
يتفق مع الأول. ومن المستبعد جدا أن هذا هو الأصل الذي قاله
السمين، ومن الصعب تدارك هذا الخلل والتحقق من ذلكم الأصل في ظل
غياب نسخ أصلية، أو قديمة على الأقل، لهاتين القصيدتين.
ياحبذا لو تضافرت الجهود لجمع مخطوطات الشعر النبطي من مختلف
العصور ولم شتاتها ثم تحقيقها وعمل دراسات مقارنة لأنماط خطوطها
ونوع الورق الذي كتبت عليه والحبر الذي كتبت به ثم ترتيبها زمنيا
لعلنا نستطيع أن نحدد العلاقات فيما بينها ولو بصورة تقريبية
مبدئية ونتتبع المراحل والتغيرات التي مرت بها بعض القصائد، لا
سيما القصائد القديمة. وكلما تعددت النسخ الخطية للقصيدة وغطت
مساحات زمنية ومكانية أوسع استطعنا عن طريق التحقيق والتدقيق
والمقارنة والمقابلة بين هذه النسخ أن نرمم النص ونصحح ما فيه من
أخطاء ونتمكن من قراءة ما انطمس من كتابته وفهم ما استغلق من
معانيه ونخرج بنص قويم سليم قريب من الأصل في لغته ومفرداته وعدد
أبياته وترتيبها. وكلما تراكمت لدينا المادة الشعرية استطعنا أن
نرصد مسيرة الشعر النبطي بلغته ومضامينه وأساليبه الفنية في حركته
المستمرة على طريق التغير اللغوي والفني. هذه الحركة من البطء
والتدرج بحيث قد لا يشعر بها الإنسان ويلاحظها بشكل مباشر في حياته
الفردية. ملاحظة التغير اللغوي والفني في الشعر النبطي يحتاج منا
النظر إلى التراث الشعري برمته ثم فرزه وترتيبه في تتابع زمني
منتظم. ولكن كيف لنا أن نرتب وفق تسلسل زمني هذا التراث الشعري
الذي تتتضمنه دواوين الشعر النبطي ومخطوطاته؟
القيمة الاجتماعية والفاعلية السياسية للشعر العربي، فصيحه وعاميه،
تجعل الحديث عنه وعن تاريخه مرهونا أساسا بالحديث عن التاريخ
السياسي لشعوب الجزيرة العربية. حالما نبدأ محاولة تأريخ الشعر
النبطي ورصد مراحل تطوره نجد أنفسنا غارقين في الحديث عن الأحداث
السياسية وعن القوى التي تتالت على أنحاء الجزيرة العربية والأسر
الحاكمة التي تداولت السلطة فيها وتعاقبت عليها. الربط بين التاريخ
السياسي والتاريخ الأدبي يعني في نهاية المطاف الربط بين المادة
الشعرية وبين المصادر التاريخية المكتوبة التي تعنى في المقام
الأول بتسجيل وتوثيق الأحداث السياسية. لو نظرنا إلى المعلومات
التاريخية الضئيلة عن الجزيرة العربية التي تجود بها المصادر
المكتوبة من جهة وإلى القصائد النبطية القديمة التي تجود بها
المخطوطات من جهة أخرى وتفحصنا كل منهما على حدة لوجدنا أن كلا
منهما يبدو غامضا ومليئا بالفجوات. لكننا إذا جمعنا المادة الشعرية
مع المادة التاريخية المكتوبة ونظرنا فيهما جنبا إلى جنب فإنه،
بحكم ما بين التاريخ السياسي والأدبي من تضافر وتداخل، ينتج بين
هذين المصدرين تفاعل معرفي يسد كثيرا من الفجوات ويفسر
كثيرا من الغموض ويساعد على ترتيب التراث الشعري وفق حقب زمنية
متتابعة.
يمكننا مثلا الرجوع إلى المصادر المكتوبة لمعرفة تأريخ حادثة من
الحوادث التي تتحدث عنها إحدى القصائد أو معرفة متى عاش شخص ورد
اسمه فيها، وهكذا نستطيع تحديد زمن القصيدة وعصر الشاعر. لنفرض أن
شاعرا من الشعراء لا نعرف شيئا البتة عن حياته وجدنا له قصيدة في
مدح شخصية تاريخية معروفة مثل أجود بن زامل الجبري. هذا يعني أن
الشاعر عاصر أجود الذي لدينا بعض المعلومات عنه وعن حياته ومتى
عاش. ولنفرض كذلك أن شاعرنا نفسه أورد في قصائده الأخرى أسماء
شخصيات من الأمراء والأجواد والرجال الذين لا نعرف عنهم شيئا.
هؤلاء لا بد أن يكون عصرهم هو عصر الشاعر الذي نعرف أنه عاصر أجود
ومدحه. إذا استطعنا تحديد زمن القصيدة، لتضمنها حادثة نعرف -من
المصادر المكتوبة الموثقة- متى وقعت أو لإشارتها إلى شخص نعرف متى
عاش، فإننا نستطيع بناء على ذلك أن نعرف ولو بالتقريب تاريخ ما
تتضمنه القصيدة وكذلك ما تتضمنه قصائد الشاعر الأخرى من حوادث
وشخصيات أغفلها المؤرخون وربما ذكروا نتفا منها لكن دون أن
يستطيعوا تحديد تواريخها وربما حددوها وأخطأوا في التحديد. وهكذا
نستطيع بحكم التضافر بين مضامين الشعر النبطي وبين أحداث التاريخ
والرجال الذين صنعوه الاستفادة من القصائد النبطية لملء بعض
الفراغات في معلوماتنا التاريخية وربما تصحيح بعض الأخطاء
والتخرصات، كما يمكننا من جهة أخرى الاستفادة من المصادر التاريخية
في ترتيب الشعراء النبطيين حسب الأقدمية ثم فحص إنتاجهم الشعري
ودراسته من أجل تتبع المراحل اللغوية والفنية التي مر بها.
بعد ترتيب المادة الشعرية ترتيبا زمنيا نأتي إلى مفصلة هذا الترتيب
الزمني وتقسيمه إلى مراحل متتالية بحيث لو أننا أخذنا الإنتاج
الشعري لكل مرحلة وتفحصناه كجسم واحد وكتلة متجانسة من القصائد
المتناصة المتداخلة
corpus
واستخلصنا السمات اللغوية والفنية التي تميز كل مرحلة، لاستطعنا،
من مقارنة هذه السمات المرحلية، أن نرصد ملامح التغير عبر القرون
المتتالية ونجزأ تاريخ الشعر النبطي إلى حقب وعصور أدبية لكل منها
لغته وأساليبه الفنية المتميزة. وحيث أن المسيرة التطورية للشعر
النبطي مسيرة منتظمة ومتدرجة لذلك فإننا حينما نريد أن نقسمها إلى
مراحل وأطوار نجد من الصعب تحديد نقاط الفصل بين مرحلة وما قبلها
أو بعدها، مما يضطرنا إلى الخروج من دائرة الشعر للبحث عن أسس نبني
عليها هذا التقسيم المرحلي. اعتاد المختصون في محاولاتهم لتحقيب
التاريخ الأدبي أن يلجأوا إلى حقب التاريخ السياسي ويستعيروا منها
عصورهم الأدبية ومن هنا جاءت تسميات الأدب الجاهلي وأدب صدر
الإسلام والأدب الأموي والعباسي والمملوكي، وهلم جرا. يلجأ المؤرخ
الأدبي إلى الواقع السياسي لما لهذا الواقع من أهمية في نفوس الناس
ولما يتصف به من هزات وتقلبات تشكل مفاصل تاريخية واضحة يحرص
المؤرخون على تسجيلها وتحديد زمنها. خذ مثلا ظهور دعوة الشيخ محمد
بن عبدالوهاب أو سقوط الدرعية أو دخول الملك عبدالعزيز الرياض أو
معركة السبلة، كل حدث من هذه الحوادث يشكل مفصلا تاريخيا ومحطة
انتقال بارزة تفصل بين ما قبلها وما بعدها ونتجت عنها آثار عميقة
وملحوظة ومباشرة على الأوضاع السياسية والاحتماعية. هذه التحولات
السريعة، أو قل الانقلابات في الواقع السياسي والاجتماعي ليس لها
ما يقابلها في الواقع الأدبي واللغوي الذي يجري تغيره بصورة بطيئة
ومتدرجة ويسري وفق إيقاع متسق منتظم.
الرجوع إلى التاريخ السياسي المدون وأحداثه الموثقة يفيدنا في
ترتيب التراث الشعري النبطي وفق مراحل تاريخية متتالية. كما يفيدنا
أيضا في فرز التاريخي من الأسطوري فيما تتناقله الروايات الشعبية
من حكايات شفهية تساق عادة
كمقدمات لهذه القصائد تحكي الظروف التي قيلت فيها القصيدة والبواعث
على قولها وتفسير ما تحتويه من إيماءات وتلميحات.
واستنادا إلى مراحل التاريخ السياسي لجزيرة العرب يمكننا أن نقسم
تاريخ الشعر النبطي إلى حقب تتوافق مع تاريخ المنطقة السياسي، وإن
لم يكن التوافق تاما ودقيقا. حينما نبدأ تطبيق هذه المنهجية عمليا
سوف نجد بعض الصعوبات الناجمة عن الفجوات التي تأتي أحيانا نتيجة
فراغ بين حقبة سياسية وأخرى أو نتيجة التداخل بين نهاية حقبة
سياسية سابقة وبداية حقبة سياسية لاحقة. ومع الأسف أن مؤرخينا لم
يستحدثوا طريقة لتحقيب تاريخنا في الجزيرة العربية. ولا بد لعملية
التحقيب من ضوابط أهمها أن تستمد الحقبة اسمها من سلالة أو قوة
سياسية حاكمة يمتد حكمها على فترة زمنية طويلة، مثل الدولة
الجبرية. ولكن فيما لو وجدت في نفس العصر أكثر من قوة سياسية حاكمة
في أكثر من مكان فإننا نختار المكان والقوة اللتين تشكلان الحضور
الأقوى في مضامين الشعر النبطي واللتين يشكل فيهما الشعر النبطي
رافدا مهما من روافد التعبير الثقافي والسياسي. والأهم من ذلك أن
نختار القوة والمكان من حيث يأتينا الحجم الأكبر والحصيلة الأوفر
من المادة الشعرية. فأنا مثلا نسبت الحقبة الأولى من حقب الشعر
النبطي إلى الجبريين ولم أنسبها إلى معاصريهم من الأشراف في الحجاز
أو المشعشعين في الحويزة وعربستان. ورغم أن الحقبة الغريرية تكاد
تتزامن مع حقبة آل معمر في العيينة إلا أنني اخترت أن أنسب الحقبة
إلى آل غرير لأنهم الأقوى والأعظم تأثيرا. وربما تطورت الدراسات
الشعبية عندنا مستقبلا وتعمق فهمنا للشعر النبطي شكلا ومضمونا
لدرجة تسمح باكتشاف حقب تاريخية نابعة من الشعر نفسه وأكثر دقة في
التعبير عن مراحله التاريخية. ومع قصور المنهج الذي أقترحه في
تحقيب الشعر النبطي إلا أنني لا أرى بأسا في سلوك هذا الطريق حتى
تتبين طرق أخرى أدق وأجدى.
هذا يقودنا إلى مسألة مهمة تتعلق بقيمة النص كشاهد تاريخي ولغوي
على عصره. إذا كان قائل القصيدة شخصاً حقيقياً له وجود تاريخي
ووصلتنا القصيدة عن طريق الثبت الكتابي أو التسجيل الصوتي بالشكل
اللغوي الذي قيلت فيه أصلا، دون أن ينالها أي تحريف أو تغيير، فإنه
لا أحد يشك في قيمتها كشاهد لغوي وتاريخي. أما إذا لم تدون القصيدة
واعتمدت في وجودها وتداولها على الرواية الشفهية فإنها تصبح عرضة
للتحريف والتغيير اللغوي وتعدد الروايات والاختلاف في نسبتها إلى
قائلها. وكلما ابتعدت القصيدة زمنيا ومكانيا عن قائلها الأصلي
تراكمت التغيرات التي تطرأ عليها وأصبح تحقيقها وردها إلى أصلها
أمرا متعذرا، مما يضع ظلالا من الشك حول قيمتها كشاهد لغوي وتاريخي.
أما إذا نحل الرواة، لسبب أو لآخر، قصيدة ونسبوها لشخصية حقيقية
لها وجود تاريخي فإنه لا يعتد بهذه القصيدة من الناحية التاريخية،
إلا إذا أردنا أن نبحث في البواعث والظروف السياسية والاجتماعية
الداعية إلى نحلها. كما أن القصيدة المنحولة لا تصلح كشاهد لغوي
على لغة عصر قائلها المزعوم لكنها قد تصح كشاهد على لغة العصر الذي
نحلت فيه، والتي قد تختلف عن لغة القائل المزعوم بحسب قربها أو
بعدها زمانيا عن عصره. أي أن النحل يفقد النص قيمته التاريخية لكنه
مع ذلك يبقى شاهدا يمثل الواقع اللغوي والأدبي للعصر الذي نحل فيه.
فالقصائد التي يرويها العامة عندنا في نجد حتى عهد قريب وينسبونها
إلى المهلهل وكليب وجساس لا علاقة لها إطلاقا من الناحية اللغوية
(ولا التاريخية) بهذه الشخصيات وإنما هي نماذج من لغة العصر الذي
نحلت فيه، أو بالأحرى لغة العصر الذي تم فيه تدوينها أو تسجيلها
صوتيا، والتي قد تختلف عن اللغة التي تم فيها الانتحال أصلا. فمن
الممكن مثلا أن تعيش شخصية في الجاهلية مثل عنترة بن شداد وبعد
تفشي العاميات يقول الرواة والقصاصون الشعبيون أشعارا على لسان
عنترة باللهجة العامية ويتداول الناس هذه الأشعار ويتوارثونها عن
طريق الرواية الشفهية لعدة قرون وتتعرض جراء ذلك لتغيرات لغوية
تنأى بها عن الأصل المنحول، ثم يأتي بعد ذلك من يدونها برواية
العصر الذي تم فيه التدوين ولغته التي تختلف عن لغة الرواة
الأقدمين الذين نحلوها أصلا والتي هي بدورها تختلف عن اللغة التي
كان يتكلم بها قائلها المزعوم عنترة وينظم بها شعره.
هذه الاحترازات العلمية تفرض علينا التريث في قبول ما ينشر في بعض
المصادر المطبوعة على أنه نماذج من الشعر النبطي القديم، خصوصا في
حالة عدم نص الجامع على مصادره التي استقى منها هذه النماذج، أو في
حالة كون هذه المصادر مصادر شفهية أو حتى مصادر خطية نسخت في أوقات
متأخرة. ومن الأمثلة على ذلك الأبيات التي نسبها الفرج لعليا حبيبة
أبي زيد الهلالي من قصيدة أرسلتها إليه وهو في المغرب يقاتل البربر
وأولها: ياركب ياللي من عقيلٍ تقلّلَوا// على ضمّر شروى الحنايا
نحايل. لا يمكن الاعتماد على هذه الأبيات التي وصلتنا عن طريق
الرواية الشفهية وقبولها على أنها قيلت في القرن السابع الهجري كما
يقول الفرج. ومثال آخر القصيدة التي نسبها عبدالله بن خالد الحاتم
في الجزء الأول من مجموعه خيار ما يلتقط من الشعر النبط لعرار ابن
شهوان آل ضيغم الذي قال عنه إنه من الشعراء الأقدمين عاش سنة 850.
لكننا في ريبة تاريخية من أمر عرار بن شهوان هذا؛ وهل استقى الحاتم
القصيدة من مصدر خطي وما هو تاريخ هذا المصدر؟ لعلها استنسخت من
مصادر شفهية في وقت متأخر مثل ما استنسخت قصائد بني هلال والقصائد
الأخرى المتعلقة برحلة الضياغم الأسطورية. ولا أدري على ماذا اعتمد
الحاتم في تحديده لزمن هذه القصيدة حيث أن المصادر الخطية التي
اطلعت عليها تورد القصيدة دون أن تحدد لها تاريخا. ولعل ابن عقيل
(1402: 61-65) تسرع في قبوله لهذه القصيدة واعتبارها نموذجا للشعر
النبطي في القرن التاسع الهجري إذ لا يقوم على ذلك دليل يطمئن له
الخاطر. ومما يزيد في شكنا في قصيدة عرار أن لغتها أقرب إلى
عاميتنا وإلى لغة الشعر النبطي في عصوره المتأخرة منها إلى لغة
شعراء النبط الأقدمين من أمثال أبي حمزة العامري وشعراء الدولة
الجبرية. ولنفس السبب لا يصح الاعتماد على الأبيات المنسوبة لأم
عرار التي أوردها ابن عقيل ليمثل بها على شعر نهاية القرن الثامن
وبداية التاسع. وهذا ينطبق على جميع الأشعار المنسوبة إلى الضياغم
والتي تتخلل أسطورة رحيلهم إلى شمال نجد. وفي كتابه عن الخلاوي نجد
أن ابن خميس يغفل الحديث عن تسلسل المصادر التي استقى منها شعر
الخلاوي، بعبارة أخرى الإسناد، سواء أكانت هذه المصادر تحريرية أم
شفهية، منذ وقت الخلاوي حتى يومنا هذا. ودار نقاش بينه وبين ابن
عقيل عن ممدوح الخلاوي منيع ابن سالم، من هو ومتى عاش، أي أن حتى
عصر الخلاوي لم يتحدد بعد.
والمقطعات الهلالية المتداولة في نجد، شأنها شأن ما شاكلها من
أشعار الضياغم وما يدور في فلكها من صنف أشعار شايع الأمسح وغيره،
لا يصح الاعتماد عليها في تأريخ بدايات الشعر النبطي وتتبع مراحل
نموه وتطوره وذلك نظرا لطبيعتها الشفهية والأسطورية. الأشعار التي
وصلتنا عن طريق الرواية الشفهية فقط لا يمكن الاعتماد عليها كأساس
قوي لتأريخ الشعر النبطي، خصوصا إذا كانت هذه الأشعار مما تبدو
عليه المسحة الأسطورية أو الروائية. وكلما كان الشاعر موغلا في
القدم وكلما أحكم النسج الأسطوري حول شخصيته ازداد شكنا في صحة
نسبة أشعاره وفي قيمتها كمصدر للبحث في نشأة الشعر النبطي ومراحل
تطوره اللغوية والفنية. وحتى لو سلمنا بصحة نسبة قصيدة من القصائد
القديمة إلى قائلها المزعوم فإن عدم ثباتها لفظيا عن طريق الرواية
الشفهية يجعلنا في شك وحذر من الاعتماد عليها كنموذج يمثل الواقع
اللغوي والأدبي للعصر الذي يفترض أنها قيلت فيه. ومما يقوي شكنا في
نسبة بعض الأشعار النبطية إلى القدماء أننا نجد أبياتا تروى
باللهجة العامية وتنسب إلى شخصيات من العصر الجاهلي مثل كليب
والمهلهل وجساس وعنترة!
|