أدب البدو في كتابات الرحالة والمستشرقين
1) جورج أوغست والين
بذل المستشرقون والرحالة الأجانب جهودا لا يستهان
بها وكانت لهم إسهامات سباقة فيما يتعلق بدراسة
لهجات الجزيرة العربية وجمع الشعر العامي، أو ما
يسمى "الشعر النبطي"، وخصوصا بين أبناء البادية
وفي شمال الجزيرة وصحراء الشام تحديدا. وحيث أن
معظم أعمال هؤلاء المستشرقين، وخصوصا القديمة منها
وما هو مكتوب بلغات أجنبية غير الإنجليزية، غير
متاحة للكثيرين من قراء العربية المهتمين بلهجات
البادية وآدبها فإننا سوف نتحدث بشيء من التوسع عن
ما تتضمنه هذه المصادر القيمة من نصوص وآراء.
وأعمال الرحالة والمستشرقين في هذا الميدان يمتزج
فيها الجمع والشرح مع الدراسات الأدبية واللغوية
التي تشكل بدورها فرعا من الدراسات الإثنولوجية
بمفهومها الأعم. هذا يتطلب منا قدرا من الانفتاح
في بحثنا عن المصادر بحيث لا نقتصر على تلك التي
تعنى بتدوين نصوص الشعر فقط، بل علينا أن نتنقر كل
ما يتعلق بلهجات الجزيرة وحياة البادية وكتب
الرحلات. مثل هذه المصادر وإن كان أصحابها قصدوا
منها أساسا أن تكون أبحاثا في علم اللهجات العربية
أو في اللغات السامية المقارنة أو في الاستكشافات
الجغرافية وهلم جرا إلا أنها لا تخلو أحيانا من
بعض القصائد و"السوالف" التي ترد كشواهد أو كمادة
خام.
وأول من قام من المستشرقين بتدوين ودراسة نماذج من
أشعار البادية هو جورج أوغست والين
Georg August Wallin الذي جمع بعض القصائد أثناء إقامته في منطقة الجوف
عام 1845م وهو في طريقه إلى حائل مرورا بجبة. ولد
والين سنة 1811م في وطنه فنلندا التي كانت آنذاك
تحت سيطرة روسيا. وحيث أنه لم يكن يوجد بعد في
فنلندا لغة وطنية نشأ والين كغيره من سكان مقاطعته
يتكلم اللغة السويدية. وأبدى اهتماما مبكرا ببلاد
الشرق وشغفا بالصحراء وحياة البادية. وحصل على شيء
من الدعـم من جمعـية الجغرافيين الملكـية الروسـية
التي تأسـست عام 1845م في ســانت بيترسـبرج
St. Petersburg
ومن جمعية الجغرافيين الملكية في لندن. يعرف نجيب
العقيقي والين في الجزء الثالث من كتابه
المستشرقون قائلا:
ولد في جزائر آلاند غربي فنلندا، وتعلم في كليتها
وصنف كتاباً باللاتينية أسماه: أهم الفروق بين
لهجات العرب المتأخرين والمتقدمين. وفي سنة 1841
قصد روسيا، وتضلع في العربية على الشيخ محمد عياد
الطنطاوي في مدرسة الألسن، حتى آخر سنة 1842، ثم
رحل إلى الشرق فطوّف خلال ست سنوات بمصر وجزيرة
العرب وبغداد وأصبهان وبصرى ودمشق متزيياً بزي
البدو متطبعاً بطباعهم باسم عبد الولي -وقد نقشه
على حجر قبره بحروف عربية- حاملاً حقيبة مملؤة
بالعقاقير، فأحبته القبائل، ويسّرت له دراسة
عاداتها ولهجاتها، واستقصاء حالة بلادها الطبيعية
والجغرافية، ثم سكن لندن (1849-50)، واشترك في
إعداد خريطة لبلاد العرب، وعين أستاذاً، فكان أول
من استقل بكرسي لها فيها، ثم سمي أستاذاً للعربية
في كلية هلسنكي، وأقبل عليه الطلاب، وأفادوا منه
حتى وفاته.
وقد نشرت دار
Falcon-Oleander
كتيبا صغيرا عنوانه
Travels in Arabia
(1845-1848)
يتضمن التقارير التي سبق أن نشرها والين عن رحلاته
مع مقدمة قصيرة كتبها
W. R. Mead
و M. Trautz
تحتوي على بعض المعلومات البيوغرافية عن حياة
والين. جاء في هذه المقدمة أن والين كتب في يناير
1851م بعد عودته من الجزيرة العربية حينما داهمه
برد الشتاء القاسي في وطنه فنلندا يعبر عن حنينه
إلى الصحراء " كم أتوق الآن أكثر من أي وقت مضى أن
استبدل مناخ وطني الثقيل الوطأة والحياة المرهقة
التي أنا مجبر عليها هنا (كأستاذ للعربية أدرس
الطلاب مبادىء الهجاء). . . طموحي في هذا الوجود
أن أتمكن من العودة إلى الشرق وبالتحديد إلى
الصحراء العربية. يمكنني العودة هناك كرحالة أوربي
لأستكشف علميا المناطق المجهولة في بلاد العرب
وأقدم نتائج أبحاثي للدوائر الأكاديمية في العالم
الغربي، وأخص بذلك الجمعيات العلمية في لندن. أو
لربما أذهب إلى هناك لللاستجمام والترويح عن
النفس، للبحث عن ملاذ في فيافي الصحراء من بيئة
أوربا الخانقة، لأجد السلام وراحة البال بعيدا عن
التفاهات والزيف والعجرفة التي اعتاد عليها
الغربيون، لأعيش بدويا حرا ثم أموت وأدفن بين
أبناء البادية الأحرار." وفي رسالة أخرى وضح والين
أهدافه والتي كان من ضمنها توثيق ودراسة الآداب
والأعراف البدوية التي كان يرى أنها "ما زالت تحكم
حياة هؤلاء الباترياركيين
Patriarchal
والتي لا تقل بأي حال في أهميتها وأصالتها عن
القوانين التي كان يحتكم إليها الغاليون القدماء،
بل حتى تلك التي سادت بين أجدادنا القوطيين" وفي
ميله للغات الدارجة والآداب الشفهية كان والين
متأثرا أيما تأثر بجهود زملائه من الأكاديميين
والكتاب الفنلنديين الذين شمروا عن سواعدهم وجابوا
أرياف فنلندا وسهوبها بحثا عن الأغاني الشعبية
والتي استطاع إلياس لونروت
Elias Lonnrot
فيما بعد أن يؤلف منها ملحمة الكاليفالا
Kalevala.
ولهذا كان والين يتطلع إلى جمع "أدب البادية
الشعري المثير . . . الذي لا ينضب ولا يجارى في
ثرائه وجودته". ويختتم والين رسالته بهذه الفرضية
التي يقول فيها "يبدو أن الطبيعة اختارت هؤلاء
الأعراب الذين لم تحد فاقتهم من إنسانيتهم
وبساطتهم ليجددوا من وقت لآخر الدماء في عروق
الشعوب غير المتحضرة أو الشعوب التي أصابها الوهن
والتفسخ. من ناحية، نجد أن جدب أرضهم وشح مواردها
يحميهم من الانحدار والانحلال الذي عادة ما تؤول
إليه الأمم التي يتفشى فيها الغنى والنعيم. ومن
ناحية أخرى نرى هذه الفاقة تدفع بهم للهجرة وترك
بلادهم للبحث عن رغد العيش ويضخون تبعا لذلك دماء
جديدة قوية فيمن يحلون بين ظهرانيهم".
كان والين مضطرا للبحث عن جهات تمول رحلاته
الاستكشافية إلى بلاد العرب وخصوصا الجمعيات
الجغرافية الملكية في إنجلترا وروسيا. لكنه أيضا
كان شديد الحرص على أن لا يعرف الشرقيون عن هويته
وأغراضه الحقيقية ومصدر تمويله حتى لا ينكشف أمره
ويعرض نفسه ومشاريعه للخطر إذا ما شك المسؤولون في
بلاد الشرق أن مهمته وأهدافه لها أبعاد سياسية.
فقد كتب إلى الدكتور نورتن شو
Norton Shaw،
أمين سر الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، يحذره
من إعطاء الأحاديث والإدلاء بالتصريحات عن رحلته
"لأنه لو حملت الأخبار أنني أباشر رحلتي محفوفا
بهذه الرعاية العظيمة من إنجلترا وروسيا فمن
المحتمل جدا أنه حالما أصل إلى القاهرة سيكون لي
شرف تلقي دعوة من عباس باشا لأتناول معه فنجانا من
القهوة والذي سيكون آخر شيء يدرج في حلقي".
أمضى والين السنتين الأخيرتين من حياته أستاذا
للعربية في جامعة هلسينكي وداهمته المنية سنة
1852م وهو في سن الواحدة والأربعين ولم يتمكن من
تحقيق طموحه في العودة إلى جزيرة العرب.
حمع والين عددا من القصائد أثناء إقامته في منطقة
الجوف عام 1845م ونشرها تباعا بترجماتها ودراسات
عنها في العددين الخامس والسادس من مجلة الجمعية
الألمانية للاستشراق
Zeitschrift der
Deutschen morgenlandischen Gessellschaft.
نشر والين هذه القصائد خلال الفترة 1851-1852م تحت
عنوان "عينات لأنثولوجيا قصائد عربية معاصرة جمعت
من البادية"
Probe aus einer Anthology neuarabischer Gesang,
in der Wuste gesammelt.
تضمنت هذه العينات ثمان قصائد يعرض كل منها على
النحو التالي: يبدأ بكتابة القصيدة بالأحرف
العربية ثم يكتبها كتابة صوتية مستخدما الرموز
اللاتينية وبعد ذلك يترجمها إلى الألمانية ويقدم
للترجمة بمعلومات عن الشاعر ومناسبة القصيدة وعن
الظروف التي جمع فيها نص القصيدة والشخص الذي
رواها له وينهي عرضه بدراسة لغوية مفصلة.
وقد قام إمام المسجد الذي يدعوه والين "الخطيب
الوهابي" بمساعدته في نسخ القصائد. ومن الواضح أن
والين والإمام غير متمرسين في التعامل مع الشعر
النبطي وتذوقه فالقصائد التي دوناها تعاني من خلل
في الوزن وفي طريقة التدوين. وتعاني بعض القصائد
من خلل في القافية وهذا يعود، في أغلب الظن، إلى
عدم كفاءة الراوي سلمان الذي أخذ عنه والين هذه
القصائد.
القصيدة الأولى من حصيلة والين أملاها عليه الشاعر
بنفسه الذي ذكر أن اسمه مساعد وأشار إليه بأنه
"عبد من عبيد الجوف". حينما وصل والين إلى الجوف
وجد لهذه القصيدة صدى واسعا ولاحظ كثرة تردادها
على ألسنة الرواة في المجالس وتغنيهم بها على
الربابة مما حدا به إلى البحث عن صاحبها لأخذها
منه مباشرة. وكان والين قد وصل إلى الجوف بعد أن
أحكم عبدالله بن رشيد، أمير حائل، قبضته عليها.
وكانت قبل ذلك تتكون من أحياء بينها عداء مستحكم
وتعيش حالة خوف ونزاع لا ينقطع. ويتحدث والين في
مقدمته لهذه القصيدة والتي تليها عن الوضع السياسي
في الجوف. وهذه القصيدة التي تتألف من اثناعشر
بيتا قالها مساعد العبد من حي خذما يخاطب بها داره
ويعلن تفانيه في الدفاع عنها.
والقصيدة الثانية تتألف من اثناعشر بيتا قالها
سالم العوض من أهل الجوف يمدح عبدالله بن رشيد
وأخاه عبيد على مساعدتهم لأهل حي خذما على أهل حي
الدلهمية.
القصيدة الثالثة تقع في ثمانية عشر بيتا قالها نمر
بن عدوان أمير قبيلة العدوان التي كانت تقطن نقرة
الشام أو حوران يرثي زوجته وضحا من بني صخر.
وأملاها على والين شخص يدعى سلمان من سكان حي خذما
في الجوف والذي يصفه والين بأنه قوي البنية ويقول
إن صحته جيدة على الرغم من سنه الذي يناهز الستين.
وأكد سلمان لوالين أنه كان تلميذا لنمر بن عدوان
تعلم على يده قرض الشعر وأن نمر هو الذي شجعه على
قول الشعر وأنه بعدما حفظ الكثير من أشعار نمر بدأ
شيئا فشيئا بقرض الشعر بنفسه ويدعي بأن لديه
صندوقا ملأه بقصائد نمر. ويذكر والين بأن وصوله
إلى الجوف سنة 1845م كان بعد وفاة نمر بسنوات
قليلة. ويضيف والين أن نمر كان شاعرا واسع الشهرة
وأنه متعلما وضليعا في استخدام المراجع الأدبية
والقواميس التي يستقي منها مفرداته الغريبة
والجميلة التي يزين بها أشعاره وأنه يدخل في
قصائده مفردات من اللغة الفارسية وغيرها من
اللغات. (وأود هنا أن أسجل تحفظي على ما ذكره
والين وأستبعد أن يكون نمر على هذه الدرجة من
العلم ولربما يكون هذا جزء من النسيج الأسطوري
الذي يحوكه الرواة منذ ذلك الحين حول شخصية نمر.
بل إنني في ريبة من أمر هذا الراوي المسمى سلمان
وأتردد في قبول إدعاءاته لأن القصائد التي رواها
عنه والين، سواء كانت من إنتاجه هو أو من إنتاج
"أستاذه" نمر ليست على المستوى المتوقع.)
والقصيدة التالية برواية سلمان لنمر أيضا تتألف من
سبعة أبيات يسندها على ابنه حمود وبعث بها معه إلى
وضحاء حينما غاضبته وتركته وذهبت إلى أهلها. ويقول
والين في معرض حديثه عن وضحاء أنها من الأدب بحيث
لا تدير ظهرها إلى نمر حينما تنصرف من عنده وإنما
تمشي على الوراء حتى تتعداه وتبعد عنه.
القصيدتان الخامسة والسادسة براوية سلمان قصيدتان
متبادلتان بينه وبين شاعر آخر يدعى سكران من أهل
الرحيبيين بالجوف. يقول والين عن سكران إنه شاعر
فحل وراوية جيد وأنه سمعه مرة في الجوف ومرة في
حائل ينشد الأشعار دون توقف لمدة قد تزيد على ساعة
ونصف وكانت قصائده دائما تحظى بإعجاب الجماهير
الغفيرة من الحضور. وهو شاعر متعدد المواهب يقول
القصائد في كل موضوع وبعضها في المدح وكان يحصل
مقابل ذلك على هبات على شكل "بالطو" أو "معطف" أو
ما شابه ذلك. وغالبا ما ذهب سكران إلى ابن رشيد في
حائل ليمدحه بقصائده ويرجع من عنده محملا
بالهدايا. وقد حاول سكران أن ينظم قصيدة في مدح
والين، الذي كان يمارس مهنة الطب بين أبناء
البادية، عله يحصل منه على هبة سخية لكن والين كان
يعاني من قلة ذات اليد وكان بحاجة للعطف أكثر من
الشاعر وكان يعيش على كرم مضيفيه "معازيبه" من
الشيوخ والأمراء وأجاويد العرب. سبب القصيدتين هو
أن سكران وسلمان وقعا معا في غرام فتاة تدعى
"سْـوَيّـر" (تصغير ساره)دون أن يعلم أحدهما عن
الآخر. وبعدما اتضحت الأمور لكليهما حاول كل منهما
أن يتنازل عن الفتاة للآخر ولكنه في قرارة نفسه
يأمل أن يغلبه صاحبه في النبل والشمم ويتنازل عن
الفتاة لتكون من نصيبه هو.
القطعة السابعة التي يوردها والين وتتألف من خمسة
أبيات، ويزعم والين أن القصيدة أطول من ذلك بكثير
وأن صاحبها، الذي نسي والين اسمه، رفض أن يرويها
له وأن الذي روى له هذه الأبيات الخمسة سلمان.
ويقول والين إن قائل هذه القصيدة شاب من أهل الجوف
انتقل مع أبويه إلى الكرك وكان يقوم بزيارة قصيرة
إلى الجوف أثناء وجود والين فيها. والقصيدة معروفة
عند أهل نجد ومشهورة عند رواة الشعر النبطي
وقائلها ابن سراح من أعيان الجوف.
القصيدة الأخيرة مقطوعة قصيرة من ستة أبيات
التقطها والين من رواة قبيلة بلي حينما كان يتنقل
معهم وكانت تدور على ألسنة الجميع ويلهجون بها.
ويقول والين إن "معـزّبه" من بلي ذكر له أنه كان
مرة بصحبة رفيق له يدعى مِـشَـلّ في زيارة لأحد
شيوخ الفقرا (عنزة) وسمع أحد الحضور يتغني بهذه
القصيدة على الربابة. ويردف والين أن بدويا من
قبيلة بشر رافقه في رحلته من تيماء إلى حايل أكد
له أن هذه أبيات قديمة قالها عقاب العواجي. (وهذه
المعلومة التي سجلها والين عام 1845م لو توفرت
لدينا قرائن ومعلومات مشابهة لها لساعدتنا في
تحديد الفترة التي عاش فيها عقاب العواجي وربما
تأريخ بعض الوقائع والمعارك التي حدثت بين
الجعافرة بقيادته وبين شمر.) ويعتقد والين أن
القصيدة طويلة لكنه لم يتمكن من الحصول على أكثر
من ستة أبيات.