ياخوي طاب الكيف له والتعاليل: نظرة في قصيدة
نبطية
وإنما أردنا من هذه المقدمة أن نمهد الطريق أمام
القارىء ونلفت انتباهه إلى الأسس النقدية والأصول
المنهجية التي ينبغي مراعاتها والأخذ بها في دراسة
الشعر النبطي ونقده. ونرجو أن يكون حالفنا التوفيق
في خلق الإطار الفكري السليم وتهيئة الجو الذهني
الملائم لتذوق القصيدة التي سنستعرضها والتي نرى
أنها من قلائد الشعر النبطي وذخائره النفسية.
قائل هذه القصيدة هو الشاعر المعروف سويلم العلي
النويصر السهلي. وهذه القصيدة هي:
ياخوي طاب الكيف له والتعاليل
صدره وسيع ولا تجيه الهمومِ
لا واهنيّه له شْبوح ومراسيل وانا شْبوحي
ما تجيب العلوم
البدو شالوا نوّهوا بالمراحيل
وكلٍّ رِكَض للزمِل شِلاّه تومي
حَدٍ يِخِمّ العِلْق يِخْطيه ويشيل
وْحَدٍ تِقَلّل ما بِقي له لِزوم
شالوا وقفّن الظعاين زعاجيل
شَفّوا وْهَفّوا واتّقوا بالحزوم
وانا بمرقاب الشقا عيني تخيل
في راس مرقابٍ طويل الرجوم
أخايل الاظعان واقفت مقابيل
استقبلن ظعون زاهى الرقوم
وايّست من دعّاج الاعيان بالميل
ولا لي على نابى الردايف سلوم
واهَجِرْ قلبي كان هو طاول الطيل
عز الله اني مهجلٍ كل يوم
هْجال من تاهت عن الذود بالليل
ما بين سرح لوارد الجو تومي
الولف بلوى به هبال وهرافيل
لولا الحيا راعيه يرمى الهدوم
يا لايمي جعله بحسر وغرابيل
الله يبلا بالبلا من يلوم
عساه بالدنيا قليل المحاصيل
وبالآخره يسقى حميم وسموم
وجدي عليها وجد من له مواحيل
حيلٍ وخلفاتٍ تدوس الوسوم
وعشايرٍ شِقْحٍ تْلاد ومخاليل
ومعهن على شقران فِلْوٍ قحوم
سِبِّر لعجمانٍ على كِنّسٍ حيل
شيب المتون عيونهن تقل لومي
كل ابلجٍ ضارٍ يكسب التنافيل
ضرما يبون المال ما فيه لوم
وغارت عليه القوم خيل ورجاجيل
وطبّح على فِلْوٍ حَشُورٍ عَزوم
واقفى يرادي به عن الخيل حِلْحيل
شَذْرٍ حَذِرْ تالي شْيوخٍ قْروم
واقفت على ذوده عصاةٍ مشاكيل
وْكِلًّ على حَقَّه شِحوحٍ بِحوم
وصلّه وخلاّ العج مثل المخاييل
عج الرمك والبل مثل الغيوم
يبي يداري هرجة القول والقيل
أحضر حياه ولا بنفسه وْهوم
وطبّح له اللي ضاريٍ بالمحاويل
وثارت إلى ان حْذاه مثل النجوم
واقفى مْذِلًّ مع دكاك الغراميل
يفرك يديه ومر كبده يزوم
عقب السعد والعز والبن والهيل
وكبشٍ مْرَبّينه لكل محشوم
اليوم يسهر كل ما جَرْهَد الليل
ودايم على غيضه صنوتٍ كضوم
هذا وجودي وجد من له مواحيل
من عقب ما هي ذود صارت قْسوم
أو وجد من صدّر على اربع محاحيل لها لْيا
غاب الرقيب معلوم
صدّر على اربعمايةٍ كلها كيل
حبًّ حمر تسقي نواحيه كوم
اربع عقايبها اربعٍ كِنّسٍ حيل
ويشيلن الما في وساع الكموم
يوم استتم الزرع شال النما شيل
نِشَت بردها كبر روس البهوم
وهلّت على وصط المفالي هماليل
وصارت على روس النواحي رجوم
واللي بقى من حبّها شاله السيل
غثو السبل بالسيل مثل الهدوم
واصبح يصيح ويزعج الويل بالويل عن نول
ما نالت يديه محروم
الله يكفينا شرور المخاييل
الا عطا الرحمه كما انه رحوم
ما قلتها باللي تعرف التهاويل
ولا هي من اللي يجمعن العلوم
نشرت هذه القصيدة في ديوان الشاعر الذي طبع سنة
1400هـ،
وكانت قد نشرت من قبل مع أربع قصائد أخرى من قصائد
سويلم العلي في الجزء الثاني من التحفة الرشيدية
في الأشعار النبطية،
كما أذيعت القصيدة منذ عدة سنين في برنامج من
البادية حينما كان يقدمه منديل الفهيد من الرياض
وبرنامج ألوان شعبية الذي كان يقدمه أبو سليم من
الرياض أيضاً. وقد تكون أذيعت في برامج إذاعية
وتليفزيونية أخرى.
مهما أوتيت من قدرة بيانية فلن أستطيع التعبير عن
الإحساس العارم الذي شعرت به لدى سماعي سويلم يلقي
قصيدته في برنامج من البادية. لقد كان أداؤه
رائعاً إلى أبعد حدود الروعة وجميلاً إلى أقصى
حدود الجمال، أعطى لكلمات القصيدة شفافية رقراقة
ولصورها أبعاداً إيحائية مفعمة بالحركة والشعور.
هذا الأداء الحي النابض أضفى على أبيات القصيدة
حركة فياضة وتدفقاً يستحوذ على وجدان المستمع
ويغمره بالأحاسيس فيتفاعل مع القصيدة بكامل مشاعره
وعواطفه. ومما يبرز براعة الإلقاء تلك التغيرات في
نبرة الصوت والتموجات في نغمة الأداء التي يوظفها
الشاعر كمؤشرات خفية توحي بالانتقال من حال إلى
حال ومن موضوع إلى موضوع، فينشر قصيدته ويبسطها
لدى المستمع بطريقة أدائية شيقة تتناسب مع تدرجها
الموضوعي وتلقي ضؤا كاشفا على حبكتها الفنية. ولن
أتمكن مهما حاولت من أن أبرز على الورق هذه
الجوانب التي تتعلق بالأداء الشفهي، لذا سوف
أتركها لأنتقل إلى الجوانب الأدبية في القصيدة.
حينما نقرأ قصيدة سويلم العلي السهلي نشعر بانحراف
مفاجىء وتغير ملحوظ بعد البيتين الأولين، ونحس أن
القصيدة تبدأ حقيقة مع بداية البيت الثالث. هذان
البيتان اللذان يستهل بهما سويلم قصيدته هما من
نوع الإرهاص أو التوطئة التي يقصد من ورائها تسليط
الضوء على عقدة القصيدة وموضوعها الأساسي. وهما
أشبه باللقطة الأولى في بعض الأفلام التي تبدو
وكأنها انتزعت من وسط الفيلم أو نهايته والتي
يوظفها المخرج ليوجه ذهن المشاهد ويلقي في روعه
بأن يتابع العرض من زاوية خاصة وأن يترقب أحداثاً
معينة. يوجه سويلم هذين البيتين إلى أخيه يشكو
إليه، وفي الوقت نفسه يقابل بين حالة الشقاء التي
هو فيها وبين الحالة المضادة، حالة السعادة، التي
ينعم بها أخوه. فالأخ في منتهى السعادة والسرور
لأن محبوبته قريبة منه تصلها المراسيل والعيون
"الشبوح"، أما محبوبة سويلم فقد ارتحلت إلى بلاد
نائية وانقطعت أخبارها. من أول وهلة ومن خلال هذه
المقدمة القصيرة نشعر بالتعاطف مع الشاعر ونقاسمه
الأسى ولوعة الحرمان.
وتوجيه الخطاب أو الشكوى إلى الرفيق أو النديم أو
الصاحب أو العذول من الخصائص الفنية التي تدخل في
صلب البنية الفنية للقصيدة العربية، جاهلية كانت
أم نبطية: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"، "أصاح
ترى برقا أريك وميضه"، "قم سَوّ ما يجمد على الصين
ياذياب"، "ياعلي هيّا بس انا وانت ننصاه // من فوق
مفتول الذراع الرواجي"، والأمثلة على ذلك أكثر من
أن تحصى، وكلها تشير إلى الطبيعة الشفهية في الشعر
العربي. فالشاعر الجاهلي أو النبطي ينظم قصيدته
ليلقيها على جلسائه وندمائه، لذلك يستهلها بالشكوى
إليهم كي يستدر عطفهم فيسايرونه ويشاركونه الشعور
حتى يستأثر باهتمامهم ويملك زمامهم فينصتون له
ويعجبون به.
بعد هذين البيتين ينتقل سويلم إلى موضوع آخر من
المواضيع المتوارثة في الشعر العربي، ألا وهو بين
الحبيبة وارتحال عشيرتها. كقول غيره، "رد الخليط
الجمال فانصرفوا // ماذا عليهم لو أنهم وقفوا"،
"لا والله الا شدوا البدو نجاع // كل هدم مبناه
وارتد زمله". إلا أن سويلم يرسم لنا في قصيدته
منظراً حياً فنحس من قراءتنا لأبياته أننا نرى
القوم منشغلين في تهيئة جمالهم للرحيل ويركضون هنا
وهناك ونشاهد أردانهم ترفرف من سرعة جريهم، ولكي
يكشف الصورة ويبين قسماتها يعمد الشاعر إلى تقسيم
الظاعنين إلى قسمين، قسم لا يزال يجمع متاعه
ويحمله وقسم آخر استقل وبدأ المسيرة. ثم تبدأ
الرحلة الجماعية وتسير الجمال سيراً حثيثاً
"زعاجيل" ويتركون الشاعر خلفهم وحيداً كاسف البال
يرقبهم عن بعد وقد اعتلوا النجاد "شفوا" ثم
انحدروا في الوهاد "هفوا" واختفوا وراء الحزون.
ولم أجد من بين شعراء النبط من يجاري سويلم في رسم
هذا المشهد الاستعراضي الرائع الذي يعج بالحياة
والحركة إلا ابن سبيل في قوله من قصيدة له:
لا والله الا صار للبدو نوناه
وثوّر عسام الجوّ مما عْفِت به
البيت هدّن الخدم زين مبناه
طوّن ذراه وقينة الزمل جت به
شالوا على اللي بالمبارك مثنّاه
ما حِطّ فوق وْسوقها زوّعت به
وقول الفارس المعروف ناصر بن عمرو بن هادي من شيوخ
قحطان من قصيدة له يصف احدى المعارك حيث يقول:
الرابح اللي ما حضر بالاميلاح
ولا شاف َلجّة خِلْجِنا بالمراحِ
ما شيل فوق الزمل من قَشَّنا طاح
ولا شَحَنَّي كود صيحة رِداح
أنا ان ثنيت مناطحٍ شِلْف ورْماح
وان انهزمت مغيزل العين صاح
يوم انكسر رمحي تجنّدت ابو لاح
رَدّيت للهندي شريدة سلاحي
اضرب بوسط جموعهم لين تنزاح
اجلّهم جلّ الجمل للقاح
وتبدأ مصيبة سويلم حينما يصبح رحيل المحبوبة أمراً
واقعاً ويستقر في ذهنه أنه ليس هناك وسائل ولا سبل
"سلوم" للوصال واللقاء. ويصف تخلفه عن محبوبته
وعشيرتها ويقارن وحشته بالناقة التي شذت عن الإبل
الواردة فضاعت في متاهات الصحراء وظلمة الليل، فهي
إن لم تفترسها السباع فسوف تموت عطشا، وأمست
"تهجل" أي تسير مسرعة على غير هدى.
وبحكم العلاقة القائمة بين الناقة والإنسان في
البيئة الصحراوية واعتماد كل منهما على الآخر فإن
العربي يتعاطف مع هذا الحيوان ويرد ذكره كثيراً في
الشعر العربي. ويتعجب ابن الصحراء من هذا الحيوان
الذي يعتبره رمزاً للصبر والتحمل كيف يكون رؤوماً
وألوفا بهذا القدر. فالناقة إذا ما فقدت حوارها أو
فارقت أليفاتها فإنها تحن وتردد العبرات كالإنسان،
بل إن شوق الإنسان إلى الإنسان يسمى حنيناً. وهناك
كلمات مثل "يروم، ويألف" تستعمل للإنسان والناقة
على حد سواء. وإذا أراد الشاعر العربي أن يعبر عن
حنينه إلى محبوبته فإنه يقارن وضعه بالناقة التي
أضاعت حوارها. أما سويلم فإنه يجدد في الصورة
ويقارن وضعه بالناقة التي أضاعت نفسها.
والبيت الحادي عشر يصف آثار الحب على الصب المتيم.
ومعروف أن الحب يخامر اللب ويسلب العقل، وشهداء
الحب أكثر من أن يحصى عددهم.
ويوجه الشاعر اللعنة في البيتين التاليين على من
يلومه. ويخاطبه بصيغة المنادى "يا لايمي"، وهذا
أثر آخر من آثار الصبغة الشفهية في الشعر النبطي.
والدعاء على الواشي أو العذول أو من يتسبب في فراق
الحبيب من المعاني
motifs
التي استحدثت في الشعر النبطي ولم تكن مألوفة في
الشعر الجاهلي. وقد يكون هناك نوع من العلاقة بين
هجاء الغريم والدعاء عليه وقد يكون هذا امتداد
لذاك، فكلا الأمرين يقصد بهما إلحاق الضرر بالخصم
وكلاهما قائم على الاعتقاد بأن بداية الخلق والحدث
الأول كان في الأصل كلمة: في البداية كانت الكلمة:
كن فيكون. فالكلمة على لسان الفاعل القادر تمتلك
قوى سحرية وطاقات دفينة تجعل منها في حد ذاتها
سبباً كافياً لإحداث الحدث. وكلنا يعرف كيف كان
الناس في الجاهلية يتحاشون الهجاء ويخافون الشعراء
ويعتقدون أن القوى الخفية والشياطين تخدمهم. وقد
ظل هذا الاعتقاد سائداً بصورة أو بأخرى في الجزيرة
العربية حتى عهد قريب وكان الناس يخشون دعوة
الشاعر. وقد اشتهر بعض الشعراء بأن دعوتهم مستجابة
مثل ساكر الخمشي الذي دعا على أهل محبوبته لما
رفضوا تزويجه منها حيث يقول:
عسى يجيهم من بني عمّهم صُوك
يومٍ به الممرور يَبْزَعْ بْخاله
ويقال أن أقرباءهم أغاروا عليهم وقتل الرجل خاله.
ومثال ذلك دعوة عدوان الهربيد على نخل راجي بن
طوعان في ملاحاة بينهما فاستعر النخل وأصبح
هشيماً. يقول عدوان:
الله يهيّي لملكك قبسةٍ من جهنم
تضفي على روس النوابى شروقه
لْيا صار ما به للنشاما عريشه
دومٍ خْفافٍ بالمبادي عْذوقه
أما من الناحية الفنية فالبعض يعتقد أن الدعاء على
الغريم مما يشين الشعر النبطي ويحط من قدره وينغص
جماله والاستمتاع به. وهذا الحكم في رأيي لايخلو
من المفارقة التاريخية. فهؤلاء يحكمون على الشعر
النبطي ويطبقون عليه مقاييس العصر الحاضر الذي يرى
في الهجاء والدعاء ممارسات شائنة تتنافى مع
المبادىء الإنسانية الداعية إلى الصفح والتسامح.
ومن ناحية أخرى علينا أن ندرك أن الشاعر فنان يبحث
عن مادة جديدة ليشكلها، رسام يبحث عن ألوان جديدة
ليمزجها، ورائد يبحث عن مجاهل جديدة ليكتشفها.
والدعاء على الغريم معنى من المعاني الجديدة التي
ابتكرها شعراء النبط فاصبحت خانة من خانات النظم
ولبنة من لبنات البناء الفني للقصيدة النبطية، بعض
الشعراء يوظفها بمهارة وبعضم لا يحالفه التوفيق.
ولا أعتقد أن سويلم أجاد توظيف هذه الجزئية الفنية
في قصيدته. ولكن هذا لا يضيره فابن سبيل، وهو أشهر
شعراء نجد الغزليين لم يحسن توظيفها حين دعا كدعاء
العجائز في قوله:
راعى النميمه لا سعت له بخيره
عسى عظامه للشواغى الضريره
حلقه لَعَلّه للشجر والدراوه
واخيضرٍ يدعي عيونه قراوه
من أحسن من أجاد توظيف هذه الجزئية الفنية مشعان
الهتيمي في قصيدة له يقول فيها:
من لامني جعله مع القلب يهدج
يهدج برمحٍ من ورا الجب هاوي
بمشنشلٍ ما به كْعوبٍ ولا عْوَجْ
في يد فصيخ القلب ما هوب ياوي
وكذلك هضيبان المورقي في قصيدة يقول فيها:
عسى من حدّهم ينحون ينحى مع
شفا المغراق
ياخذ مقدار ساعه لا حبال ولا حداديرا
مطيحه في جبل مشويّه اللي مارد
البراق
مواقفها عسار وجالها كلّه شناظيرا
بعد ما حوّل الغاطس فهى وافهاه
كسر الساق
من الركبه الى حد القدم غادٍ شعاثيرا
ياخذ مقدار حوليّه يشيلونه
خبيث اوفاق
عظامه لا بلينا ما تليّمها الجبابيرا
الى شدّوا يشيلونه على وسق
ازرقٍ صعفاق
حسوسٍ بالشجر يرثع معا تالى المظاهيرا
يلاحظ القارىء من المثالين السابقين أن الشاعر لا
يعنيه إلحاق الضرر بغريمه بقدر ما يعنيه أن يقتطع
جزءاً من الواقع ليرسم منه صورة مكثفة محكمة الحبك
تنم على مقدرته وأصالته في الإبداع والتصوير. وهذا
يقودنا إلى النقطة التالية. بعض الشعراء لا يكتفي
بالتشبيه والاستعارة وغير ذلك من الوسائل البلاغية
البسيطة، بل يلجأ إلى وسائل فنية أخرى يجد فيها
مجالاً أرحب لممارسة قدراته لأنها تتطلب براعة
أكثر. يوظف الشاعر هذه الوسائل الفنية في تكثيف
الصورة الشعرية وإبراز تفاصيلها ليؤكد المعنى الذي
يرمي إليه ويدفع حركة النظم وبنية القصيدة إلى
الأمام.
وهناك وسيلتان من الوسائل الفنية المتاحة أمام
الشاعر النبطي وبإمكانه أن يوظفهما في نشر الصورة
الشعرية وبسط أرجائها هما: الأسلوب التراكمي
والأسلوب الاستطرادي.
الأسلوب التراكمي يعتمد على حشد الأمثلة وتكديس
الشواهد التي تتعلق بموضوع واحد في عدة أبيات من
القصيدة كقول الشاعر:
سلام ياللي هرجكم ينعش الحال
عْداد وبلٍ ممطرٍ من مخيله
سلام عِدّة ما يسمى من المال
وعْداد اسامى الدار واسم القبيله
وعدّ الشهور وعد ما هلّ بِهْلال
وعِدّ النهار وعِدّ ما امسى بليله
وعِّدة نفود السر فنجال فنجال
الى لقى قلبٍ لبيبٍ يكيله
قل لي هلا ياصاحبي طيّب الفال
لا ياربيع القلب مبري غليله
ويكثر استخدام الأسلوب التراكمي في الشعر النبطي
وإن لم يكن شائعاً في الشعر الجاهلي. أما الأسلوب
الاستطرادي فهو من أدوات البناء الفني التي ورثها
الشعر النبطي عن الشعر الجاهلي وهو أجود سبكا من
الأسلوب التراكمي وأحكم نسجاً ولا يستطيعه إلا
شاعر موهوب يمتلك زمام النظم ويجيد تصريف القوافي.
والاستطراد هو أن يعلق الشاعر حركة القصيدة
وتقدمها الموضوعي مؤقتاً ليقحم حدثاً وصفياً
قصيراً يصور من خلاله منظراً من مناظر الصحراء أو
موقفاً من مواقف الحياة فيها كما في المثالين
السابقين اللذين أوردناهما لمشعان الهتيمي وهضيبان
المورقي. أو كقول شاعر آخر:
يا وجودي وجد ركبٍ بْداويّه
من لهيب القيظ حاديهم اللال
روّحوا واقفوا مع الحزم رجليّه
لا صميل ولا زهابٍ ولا نْعال
ورّدوا عِدًّ يبونه عشاويّه
وافختوه وجيشهم كلها هْزال
ومن أمثلة الاستطراد في الشعر الجاهلي مقارنة
الناقة بالنعامة أو الثور الوحشي الذي تتعقبه كلاب
الصيد. والواقع أن أي تشبيه أو مقارنة يعقدها
الشاعر بين شيئين تحمل في جنباتها بذرة الاستطراد
وذلك بأن يصرف الشاعر اهتمامه مؤقتاً عن المشبه
ليلتفت إلى المشبه به ويستطرد في الحديث عنه. فلو
نظرنا إلى معلقة لبيد (برواية الأنباري)
لوجدناه حين يقارن ناقته بالسحابة التي تحدوها
الرياح لا يخصص لهذه المقارنة إلا عجز البيت
الرابع والعشرين، فهو لا يتوسع في رسم هذه الصورة
ويطورها كما يفعل حين يقارن الناقة بالأتان
الوحشية (من البيت 25 إلى البيت 35) أو بالبقرة
الوحشية (من البيت 36 إلى البيت 52).
ويختلف الأسلوب الاستطرادي عن الأسلوب التراكمي في
أنه عمل فني معقد التركيب بحيث يمكن للشاعر أن
يقحم استطرادا ضمن استطراد آخر. فحينما يستطرد
لبيد في مقارنة ناقته بالأتان الوحشية نجده يستطرد
داخل هذا الاستطراد ليقارن في البيتين الواحد
والثلاثين والثاني والثلاثين الغبار الذي تثيره
الأتن الوحشية بعدوها بدخان نار العرفج إذا
أصابتها ريح الشمال.
وهناك عدة قصائد جاهلية وإسلامية ونبطية يأخذ
موضوع الاستطراد فيها النصيب الأوفر من أبيات
القصيدة مثال ذلك قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي
قالها في رثاء أبنائه والتي يوظف فيها أسلوب
الاستطراد التراكمي توظيفاً بارزاً حيث يكدس ثلاثة
استطرادات الواحد تلو الآخر. يقول أحمد محمد شاكر
وعبد السلام هارون في المفضليات عن جو هذه
القصيدة.
ومما يسترعي النظر في هذه القصيدة بدؤه الأبيات
16، 37، 51 بمطلع واحد هو "والدهر لا يبقي على
حدثانه" ففي الموضع الأول يتحدث عن هلك حمار
الوحش، وينعته نعتاً عجيباً. ثم هو في الثاني يفيض
القول في هلك الثور، وينعته وينعت الصائد والكلب
وفي الموضع الثالث يتحدث عن مصرع البطل الفارس
الكامل السلاح، وينعت هذا البطل وموقفه إزاء بطل
آخر، يصطرعان ويتشاجران بالسلاح، فإذا به قد خر
صريعاً قتيلا.
نعود إلى الحديث عن قصيدة سويلم العلي. هناك شبه
بنيوي واضح بين هذه القصيدة وقصيدة أبي ذؤيب
السالفة الذكر. يعتمد سويلم اعتماداً كبيراً على
الاستطراد التراكمي الذي يستأثر بمعظم أبيات
القصيدة، إلا أنه أكثر مهارة في توظيف الاستطراد
وربطه بموضوع القصيدة الأساسي، وهو الحب. أبو ذؤيب
ينهي قصيدته بانتهاء المشهد الثالث، أو الاستطراد
الثالث، دون أن يحاول ربط هذا المشهد والمشهدين
السابقين له ربطاً وثيقاً بموضوع القصيدة الأصلي،
فكأن هذه الاستطرادات أشغلته عن غرضه الأصلي، أما
قصيدة سويلم فإن البيت الأخير فيها بمثابة اللمسة
الأخيرة التي تلم أطرافها وترد عجزها على صدرها
وتجعل منها بنياناً قوياً متماسكاً. فبعد أن
استطرد سويلم طويلاً في وصف وجده ولوعته يعود في
النهاية ليذكر المستمع بالمحبوبة التي أوحت إليه
بنظم القصيدة.
ونريد أن نؤكد هنا على أن الشاعر له مطلق الحرية
في تسخير أدوات البناء الفني، بما في ذلك
الاستطراد، كيف يشاء وحسب الأسلوب الذي يرى أنه
يتفق مع الذوق العام ويخدم الغرض الذي من أجله نظم
القصيدة. فبينما يستطرد سويلم في وصف صاحب الإبل
الذي نهبت إبله وصاحب الزرع الذي جرفه السيل، فإنه
لا يطيل في وصف الناقة التي شذت عن الإبل الواردة
بل يكرس لذلك بيتاً واحداً فقط هو البيت العاشر.
ولا يمكن أن نعزوا ذلك إلى عدم قدرة الشاعر أو إلى
ضيق الموضوع، فالناقة من المواضيع القابلة للتوسع
في أي اتجاه وقد طرقه الشعراء من عدة أوجه بما في
ذلك سويلم نفسه في قصيدة له أخرى حيث يقول:
عَدّيت لولاحٍ رفيع الحجايا
في راس ملموم القرا قمت اونَّ
كِني خَلوجٍ يوم صَفْق الرعايا
تِحِنّ بالمفلى لما رَوَّحَن
على ولدها كيف سوَّت سوايا طِبايعٍ ما
ظَنَّتي يِعْمَلَن
ساجت ولاجت ما لِقَت لِه حَلايا
وْخِرْشَت وْنَشَّت والقوايم جِثَن
تِصِنّ مثل اللي يْوَصَّى وِصايا
تَبي لعل سْمُوعَها يَسْمِعِن
لاجت وشافت بالنواظر هَفايا حَوايمٍ على
مِداسِه هَفَن
جَْتهن وشافت بَّس نَثْر الحوايا
وْجِلْدِه ومِدْراج الحَمَر يوم ثِنّي
وعَْرفت وشافت من لحومه شوايا
تاقت بطيحه والضلوع اعولن
والدود ما بين الضلوع الحنايا
قَطّع علايق قلبها واصرمن
جرحي غَميقٍ مثلها بالتهايا
عِدّيت والمجمول عَدّوه عني
ولكن في القصيدة التي نحن بصددها لم يشأ سويلم أن
يهدر موهبته الاستطرادية في وصف الناقة لأنه يريد
أن يسخرها في غير هذا المجال. لكي يصور لنا وجده
بعد رحيل المحبوبة يسوق سويلم في قصيدته مشهدين
استطراديين ينتهي كل منهما نهاية مأساوية تمثل
مأساة الشاعر بعد فراق الحبيبة.
يصور المشهد الأول فارساً من فرسان البادية
المغاوير شاكي السلاح ممتطياً صهوة جواده يرعى
إبله في الفلاة. هذه العيس الثمينة فيها "العشائر"
وفيها الخلفات وفيها "الحيل"،بعضها حيرانها صغيرة
"تلاد" وبعضها حيرانها قاربت سن الفطام "مخاليل"
وصاحب الأبل فارس مغوار معتد بنفسه لا يخشى الموت
ولا يأبه به، فهو يرعى إبله في أطيب المراعي التي
أصابها مطر الوسمي "تدوس الوسوم" وهذا دليل على
شجاعته وعدم اكتراثه بالخطر لأن المراعي الطيبة لا
يستطيع الوصول إليها إلا الرجال الأشداء لشدة
تنافس القبائل عليها. يوضح ذلك قول ضيف الله بن
تركي بن حميد يرثي أخاه عبيدا:
تبكيه وضحٍ رَبّعَتْ بالزباره
لْيا قِزَن من خايعٍ ما يْرَدّن
وقول سعدون العواجي يمتدح ابنه عقاب:
نبي نْدَلّه مِقِرْعات الحنينا
اذواد من رعي المخافه سْمانا
يرعن بْظِلّ عقاب مروى السنينا
اللي ليا صارت علينا حمانا
وتبدأ حركة الأحداث بظهور ركب من الغزاة سبروا
الإبل وعقدوا العزم على نهبها. ركائب هؤلاء الغزاة
صلبة قوية مدربة على الغزو وقطع الفيافي قد تركت
الرحال والنسوع آثارها على ظهورها فانقلب شعر
المتن أبيض "شيب المتون". وهذه الجزئية الفنية من
الجزئيات التي يكثر تردادها في الشعر العربي
والنبطي كقول طرفة بن العبد:
كأن علوب النسع في دأياتها
موارد من خلقاء في ظهر قردد
تلاقى واحيانا تبين كأنها
بنائق غر في قميص مقدد
وهكذا نجد سويلم في بعض الحالات لا يتوسع في رسم
الصورة الشعرية بل يشير إليها إشارة عابرة كقوله"،
"شيب المتون" لأنه يعرف أن هذه الإشارات العابرة
كفيلة بأن تحضر إلى ذهن المستمع ما يختزنه في
ذاكرته من موروث شعري يتناول هذه الصور بشتى
تفاصيلها وإيحاءاتها.
وكل واحد من هؤلاء الغزاة الطامعين في الإبل أبلج
الوجه (دلالة النبل وكرم المحتد) متعود "ضاري" على
القيام بالأعمال البطولية "كسب التنافيل" التي
تنفله، أي تميزه، على غيره من الرجال وتجعله أرفع
منهم مقاماً. هؤلاء الغزاة "ضرما" متعطشين لنهب
الإبل، ولا يلامون على ذلك "ما فيه لوم" فهذه
ممارسات وأعراف تقرها حياة الصحراء، بل تحث عليها
وتعجب بها.
وتبدأ الأحداث تتلاحق بسرعة في البيت الثامن عشر
حين يغير الغزاة على الإبل فيتصدى لهم صاحبها
الحلاحل "حلحيل" على فرسه المقدام "حشور" العزوم
ينهب به الأرض "يرادي به" وصاحب الإبل هذا سلالة
شيوخ أكارم وشجعان "تالي شيوخ قروم" لا تعوزه
الشجاعة ولا الرأي "شذر حذر" (تركيب عبارة شذر حذر
يعطيها إيقاعاً موسيقياً متميزاً) وينهب الغزاة
إبله لكنه يصر على الاستماتة في سبيل استعادتها
منهم. فكل إنسان لا يتخلى عن حقه بسهولة "كل على
حقه شحوح بحوم".
وهكذا يتمكن الشاعر في هذه الأبيات القليلة أن
يهيء المستمع ويشد انتباهه لمتابعة الأحداث التي
تقترب من الذروة. يستجمع صاحب الإبل شجاعته "أحضر
حياه" فهو فارس لا تجد الوساوس والخوف سبيلاً إلى
نفسه "ولا بنفسه وهوم" فيطلق لفرسه العنان "صَلّه"
ويتتبع الغزاة ليستخلص الإبل منهم وليدرأ عن نفسه
العار حتى لا يكون سبة بين الناس. إلا أن أحد
الرماة المهرة المتمرسين في حرب الصحراء "ضاري
بالمحاويل" يترجل عن راحلته بسرعة "طبّح" وصوب إلى
فرسه طلقة جندلتها فوقعت على الأرض ورفعت برجليها
إلى أعلى وصار حذاؤها يلمع في الأفق كالنجوم في
وسط السماء.
نتوقف هنا لنذكر القارىء بأن أبناء البادية في
غزواتهم يتحاشون سفك الدماء إلا في الضرورة القصوى
أو حالات الثأر، والمتبع لديهم هو قتل الفرس
لتعطيل الفارس وإعاقته عن الحركة. وقد يسأل الغزاة
عقيدهم قبل الهجوم: هي قطع والا منع؟. أي هل نقطع
رقاب القوم أم نمنع عنهم سلاحنا؟.
ويضطر صاحب الإبل بعد قتل فرسه إلى التخلي عن طلب
الغزاة ويعود حسيرا ذليلا تغوص قدماه في كثبان
الرمال الناعمة.
وهكذا تتجلى سخرية القدر ويتحول الإنسان العزيز في
طرفة عين إلى شخص ضعيف كاسف البال مسلوب الإرادة
يسهر الليل وحيداً صامتاً لا يمتلك حتى الشكوى.
البيت السابع والعشرون من القصيدة يلخص المشهد
الأول وينقلنا بخفة ورشاقة إلى المشهد الثاني.
يرفع الستار في المشهد الثاني عن فلاح نشيط ركز كل
جهده وزرع كل أمله في فلاحته وفي أربعمائة صاع من
القمح الصافي يترقب غلتها وما سيجنيه منها في موسم
الحصاد. فهو يمتح الماء من البئر العميق على أربع
محال ويبدأ العمل مبكراً مع غروب رقيب النجم، أي
قبل الفجر. ويستخدم في المتح أربع وأربع نوق صلبة
قوية "أربع عقايبها أربع كنس حيل" تنهض الماء في
غروب واسعة "وساع الكموم".
ولما ظهرت سنابل القمح من مخابئها وقرب موعد
الحصاد نشأت سحابة ثقيلة مظلمة تحمل برداً في حجم
رؤوس البهم. أمطرت هذه السحابة مطراً دافقاً
رافقاً على المفالي، أما أطراف الحاضرة والمزارع
"روس النواحي" فأمطرت عليها برداً كالحجارة. وأتلف
البرد الزرع وجرف السيل السنابل وراحت ثمرة كفاح
الفلاح هدراً. والويل له بعد هذه الكارثة من مالك
الأرض والدائنين.
وهكذا نرى أن سويلم بدأ قصيدته بالحديث عن مأساته
الشخصية إلا أن القصيدة آلت إلى استعراض تمثيلي
يحكي مأساة الإنسان والحياة في الجزيرة العربية
بشكل عام، يحكي صراع الإنسان مع أخيه الإنسان ومع
قوى الطبيعة القاهرة التي لا يملك معها حولا ولا
قوة. ولكي يعطي هذه النظرة صفة الشمولية يعمد
سويلم إلى انتقاء مشهدين من حياة البادية
والحاضرة. ومعروف أن البادية والحاضرة هما النمطان
الأساسيان للحياة في الجزيرة العربية اللذان
يحتلان بؤرة الشعور لدى الإنسان العربي. وهما
القطبان اللذان يحدان رؤيته وتتذبذب بينهما مشاعره
وأفكاره.
وموضوع البداوة والحضارة والعلاقة بينهما شغلت
شعراء النبط بشكل واضح. فبالإضافة إلى سويلم نجد
أن ابن سبيل وفهيد المجماج وغيرهم كرسوا العديد من
قصائدهم لهذا الغرض. وكثيراً ما يرد ذكر الحضر
والبدو مقترنين ببعضهما في الشعر النبطي. ولا يتسع
المقام هنا لإيراد القصائد التي تتناول هذا
الموضوع بشكل مفصل ولكن بعض الشعراء استطاع أن
يوجز هذا الموضوع ويحوله إلى إشارة عابرة أو جزئية
فنية صغيرة كما في المثال التالي من قصيدة يعبر
فيها أحد الشعراء عن تشوقه إلى لقيا الحبيبة.
ارجيه رجوى واحدٍ زَرّاع
صَدّر محاحيله وْمَدّ رْشَيّه
وارجيه رجوى البدو للمرباع
وارجيه لو عقب اربعٍ حُولِيّه
وقال شاعر آخر:
حمام يلعي بالبساتين
يلعب طرب والهم ما جاه
هو معجبه حضرٍ مقيمين
هل القصور اللي مْبَنّاه
أو معجبه بدوٍ مْقَفّين
يتلون بَرّاقٍ نِثَر ماه
وقبل أن نودع القارىء نود أن نطرح عليه هذا
السؤال: هل الحب حقاً هو الموضوع الأساسي لقصيدة
سويلم؟ أم أنه مجرد إطار فني صاغه الشاعر ليفرغ
فيه هذين المشهدين عن صاحب الإبل المنهوبة والفلاح
الذي جرف السيل زرعه واللذين يصوران رؤيته تجاه
الحياة وموقفه منها؟.
على كلٍ، هذه القصيدة دليل واضح على أن الشعر
النبطي سليل الشعر الجاهلي واستمرار مباشر له. كما
تثبت القصيدة أن الشعر الشفهي إنتاج أدبي رائع
يستحق العناية والتقدير وأن الشعراء الشفهيين لا
يقلون مهارة عن الشعراء التحريريين في توظيف
الوسائل الفنية المتاحة لهم.